الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 508 ] ومن كتاب الهدنة

أخبرني محمد بن عبد الخالق ، أخبرنا أحمد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، أخبرنا حبيب بن الحسن ، حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا أحمد بن محمد بن أيوب ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن مسلم ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، أنهما حدثاه قالا : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا ، وذكر الحديث بطوله ، قال الزهري : فكتب - يعني الصلح - بينه وبين قريش ، ثم قال : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ؛ اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يردوه عليه ، وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده فليدخل ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، قال : فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ يلببه ثم قال : يا محمد ، قد وجبت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال : صدقت . فجعل يبتزه ويلببه ويجره ؛ ليرده إلىقريش وذكر تمام الحديث .

هذا حديث طويل مخرج في الصحاح ، واقتصرنا منه على القدر المذكور ؛ إذ فيه الغرض .

[ ص: 509 ] ووجه الاستدلال ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم على أن يرد إليهم من أتاه من قبلهم ، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الصلح كان معقودا بينهم على رد الرجال والنساء ، فصار حكم النساء منسوخا بالآية .

أخبرني أبو المحاسن الأنصاري ، أخبرنا أحمد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا حبيب بن الحسن ، حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا أحمد بن محمد بن أيوب ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، قال : دخلت عليه وهو يكتب كتابا إلى ابن هنيدة صاحب الوليد بن عبد الملك ، وكتب يسأله عن قول الله - عز وجل - : ( إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ) إلى قوله : عليم حكيم . قال : فكتب إليه عروة بن الزبير : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان صالح قريشا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن وليه ، فلما هاجر النساء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى الإسلام أبى الله أن يرددن إلى المشركين إذا امتحن محنة الإسلام ، فعرفوا أنهن إنما جئن رغبة فيه ، وأمر برد صدقاتهن إليهن إذا حبسن عنهم ، إن هم ردوا على المسلمين صداق من حبسوا عنهم من نسائهم ، ثم قال : ( ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ) فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء ورد الرجال .

وقد أخرج البخاري بإسناده عن عروة : أنه سمع المسور بن مخرمة ، ومروان يخبران عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ ، كان فيما اشترط سهيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه ، فكره المؤمنون ذلك ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما ، وجاء المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي [ ص: 510 ] معيط ممن خرجن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ وهي عاتق ، فجاء أهلها يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعها فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن : ( إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن إلى قوله ولا هم يحلون لهن ) .

قرئ على محمد بن عبد الخالق وأنا أسمع ، أخبرك عبد الواحد بن إسماعيل في كتابه ، أخبرنا أبو نصر البلخي ، أخبرنا أبو سليمان الخطابي قال : وأما قوله : ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله فيهن : ( ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) الآية ، وقد اختلف العلماء في هذا على قولين :

أحدهما : أن النساء لم يدخلن في الصلح ، وإنما وقع الصلح بينهم على رد الرجال ، وهذا أشبه القولين بالصواب .

ويدل على صحة ذلك قوله ؛ يعني في بعض الروايات : وعلى أن لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته .

والقول الآخر : أن الصلح كان معقودا بينهم على رد الرجال والنساء معا ؛ لأن في بعض الروايات : ولا يأتيك منا أحد إلا رددته ، فاشتمل عمومه على النساء والرجال ، إلا أن الله تعالى نسخ ذلك بالآية ، ومن ذهب إلى هذا الوجه أجاز نسخ السنة بالكتاب .

وفيه دليل على أن الإمام إذا اشترط في العقد ما لا يجوز فعله في حكم الدين فإن ذلك الشرط باطل ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وفيه على هذا التأويل دليل على جواز وقوع الخطأ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور ، ولكن لا يجوز تقريره عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية