الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1530 - مسألة : وأما المضطر إلى البيع ، كمن جاع وخشي الموت فباع فيما يحيي به نفسه وأهله ، وكمن لزمه فداء نفسه أو حميمه من دار الحرب أو كمن أكرهه ظالم على غرم ماله بالضغط ولم يكرهه على البيع ، لكن ألزمه المال فقط ، فباع في أداء ما أكره عليه بغير حق ؟ فقد اختلف الناس في هذا - : فروينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا صالح بن رستم نا شيخ من بني تميم قال : خطبنا علي ، أو قال : قال علي : " سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ، ولم يؤمر بذلك ، قال { ولا تنسوا الفضل بينكم } وينهد الأشرار ، ويستذل الأخيار ، ويبايع المضطرون وقد { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وعن بيع الغرر ، وعن بيع الثمر قبل أن يطعم } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 511 ] وبه إلى هشيم عن كوثر بن حكيم عن مكحول ، قال : بلغني عن حذيفة أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن بعد زمانكم هذا زمانا عضوضا يعض الموسر على ما في يديه ، ولم يؤمر بذلك ، قال الله - تعالى - { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } وينهد شرار خلق الله - تعالى - يبايعون كل مضطر ، ألا إن بيع المضطرين حرام ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخونه ، وإن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لو استند هذان الخبران لقلنا بهما مسارعين ، لكنهما مرسلان ، ولا يجوز القول في الدين بالمرسل .

                                                                                                                                                                                          ولقد كان يلزم من رد السنن الثابتة برواية شيخ من بني كنانة ، ويقول : المرسل كالمسند من الحنفيين ، والمالكيين أن يقول بهذين الخبرين شيخ من بني تميم ، وشيخ من بني كنانة ، وهذه الرواية أمكن وأوضح ، ثم هي عن علي ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عن حذيفة ، ولكنهم قوم مضطربون .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإذا لم يصح هذان الخبران فلنطلب هذا الحكم من غيرهما - : فوجدنا كل من يبتاع قوت نفسه وأهله للأكل واللباس فإنه مضطر إلى ابتياعه بلا شك ، فلو بطل ابتياع هذا المضطر لبطل بيع كل من لا يصيب القوت من ضيعته - وهذا باطل بلا خلاف ، وبضرورة النقل من الكواف وقد ابتاع النبي صلى الله عليه وسلم أصوعا من شعير لقوت أهله ، ومات عليه السلام ودرعه مرهونة في ثمنها فصح أن بيع المضطر إلى قوته وقوت أهله ، وبيعه ما يبتاع به القوت بيع صحيح لازم ، فهو أيضا بيع تراض لم يجبره أحد عليه ، فهو صحيح بنص القرآن .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيمن باع في إنقاذ نفسه ، أو حميمه ، من يد كافر أو ظلم ظالم - : فوجدنا الكافر والظالم لم يكرها فادي الأسير ، ولا الأسير ، ولا المضغوط على بيع ما باعوا في استنقاذ أنفسهم ، أو من يسعون لاستنقاذه وإنما أكرهوهم على إعطاء المال فقط ، ولو أنهم أتوهما بمال من قرض ، أو من غير البيع ما ألزموهما البيع - فصح أنه بيع تراض .

                                                                                                                                                                                          والواجب على من طلب بباطل أن يدفع عن نفسه ، وأن يغير المنكر الذي نزل به [ ص: 512 ] لا أن يعطي ماله بالباطل : فصح أن بيعه صحيح لازم له ، وأن الذي أكره عليه من دفع المال في ذلك هو الباطل الذي لا يلزمه ، فهو باق في ملكه ، كما كان يقضي له به متى قدر على ذلك ، ويأخذه من الظالم ، ومن الحربي الكافر ، متى أمكنه ، أو متى وجده في مغنم قبل القسمة ، وبعد القسمة ، من يد من وجده في يده ، من مسلم ، أو ذمي ، أو من يد ذلك الكافر ، لو تذمم ، أو أسلم أبدا - هذا إذا وجد ذلك المال بعينه ; لأنه ماله كما كان ، ولا يطلب الكافر بغيره بدلا منه ; لأن الحربي إذا أسلم أو تذمم غير مؤاخذ بما سلف من ظلم أو قتل .

                                                                                                                                                                                          وأما المسلم الظالم فيتبعه به أبدا ، أو بمثله ، أو قيمته ، سواء كان خارجيا أو محاربا ، أو باغيا ، أو سلطانا ، أو متغلبا ; لأنه أخذ منه بغير حق ، والله - تعالى - يقول : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية