الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (31) قوله تعالى: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا فيه أوجه، أحدها: أن "يقيموا" مجزوم بلام أمر محذوفة تقديره: ليقيموا، فحذفت وبقي عملها، كما يحذف الجار ويبقى عمله، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2891 - محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا

                                                                                                                                                                                                                                      يريد: لتفد. أنشده سيبويه، إلا أنه خصه بالشعر. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون "يقيموا" و "وينفقوا" بمعنى: ليقيموا ولينفقوا، ويكون هذا هو المقول. قالوا: وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو "قل" عوض منها، ولو قيل: يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام لم يجز. قلت: وإلى قريب من هذا نحا ابن مالك فإنه جعل حذف [ ص: 105 ] هذه اللام على أضرب: قليل وكثير ومتوسط. فالكثير: أن يكون قبله قول بصيغة الأمر كالآية الكريمة، والقليل: أن لا يتقدم قول كقوله: "محمد تفد" البيت، والمتوسط: أن يتقدم بغير صيغة الأمر كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2892 - قلت لبواب لديه دارها     تيذن فإني حمؤها وجارها

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن "يقيموا" مجزوم على جواب "قل"، وإليه نحا الأخفش والمبرد. وقد رد الناس عليهما هذا بأنه لا يلزم من قوله لهم: "أقيموا" أن يفعلوا، وكم من تخلف عن هذا الأمر. وقد أجيب عن هذا: بأن المراد بالعباد: المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفا، والمؤمنون متى أمرهم امتثلوا.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه مجزوم على جواب المقول المحذوف تقديره: قل لعبادي: أقيموا وأنفقوا، يقيموا وينفقوا. قال أبو البقاء: - وعزاه للمبرد - كذا ذكره جماعة ولم يتعرضوا لإفساده. وهو فاسد لوجهين، أحدهما: أن جواب الشرط يخالف الشرط: إما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما، فأما إذا كان مثله في الفعل والفاعل فهو خطأ كقولك: قم تقم، والتقدير على ما ذكر في هذا الوجه: إن يقيموا يقيموا. والوجه الثاني: أن الأمر المقدر للمواجهة، و "يقيموا" على لفظ الغيبة وهو خطأ، إذا كان الفاعل [ ص: 106 ] واحدا. قلت: أما الإفساد الأول فقريب، وأما الثاني فليس بشيء; لأنه يجوز أن يقول: قل لعبدي أطعني يطعك، وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن التقدير: إن تقل لهم: أقيموا، يقيموا، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية. قلت: وهذا هو القول الثاني.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون "يقيموا" جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله "قل"; وذلك أن تجعل قوله "قل" في هذه الآية بمعنى بلغ وأد الشريعة يقيموا.

                                                                                                                                                                                                                                      السادس: قال الفراء: الأمر معه شرط مقدر تقول: "أطع الله يدخلك الجنة".

                                                                                                                                                                                                                                      والفرق بين هذا وبين ما قبله: أن ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشرط، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمين.

                                                                                                                                                                                                                                      السابع: قال الفارسي: إنه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر ومعناه: "أقيموا". وهذا مردود; لأنه كان ينبغي أن يثبت نونه الدالة على إعرابه. وأجيب عن هذا بأنه بني لوقوعه موقع المبني، كما بني المنادى في نحو: "يا زيد" لوقوعه موقع الضمير، ولو قيل بأنه حذفت نونه تخفيفا على [ ص: 107 ] حد حذفها في قوله: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي معمول "قل" ثلاثة أوجه، أحدها: الأمر المقدر، أي: قل لهم: أقيموا، يقيموا، الثاني: أنه نفس "يقيموا" على ما قاله ابن عطية. الثالث: أنه الجملة من قوله: الله الذي خلق إلى آخره، قاله ابن عطية. وفيه تفكيك للنظم، وجعل الجملة "يقيموا الصلاة" إلى آخره مفلتا مما قبله وبعده، أو يكون جوابا فصل بين القول ومعموله، لكنه لا يترتب على قول ذلك إقامة الصلاة والإنفاق، إلا بتأويل بعيد جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "سرا وعلانية" في نصبهما ثلاثة أوجه، أحدهما: أنهما حالان مما تقدم، وفيهما ثلاثة التأويلات في "زيد عدل"، أي: ذوي سر وعلانية أو مسرين ومعلنين، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة. الثاني: أنهما منصوبان على الظرف، أي: وقتي سر وعلانية. الثالث: أنهما منصوبان على المصدر، أي إنفاق سر وإنفاق علانية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من قبل" متعلق بـ "يقيموا" و "ينفقوا"، أي: يفعلون ذلك قبل هذا اليوم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم خلاف القراء في لا بيع فيه ولا خلال . والخلال: المخالة وهي المصاحبة. يقال: خاللته خلالا ومخالة. قال طرفة:


                                                                                                                                                                                                                                      2893 - كل خليل كنت خاللته     لا ترك الله له واضحه

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 108 ] وقال امرؤ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      2894 - صرفت الهوى عنهن من خشية الردى     ولست بمقلي الخلال ولا قال

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأخفش: "خلال جمعا لخلة، نحو: برمة وبرام".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية