الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن [ ص: 189 ] يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " ثم أتبع سببا " ; أي: طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب، " حتى إذا بلغ بين السدين " قال وهب بن منبه: هما جبلان منيفان في السماء، من ورائهما البحر ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي بلاد أرمينية . وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال: الجبلان من قبل أرمينية وأذربيجان . واختلف القراء في " السدين " فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم بفتح السين . وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة، والكسائي بضمها .

                                                                                                                                                                                                                                      وهل المعنى واحد أم لا ؟ فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه واحد . قال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فسد ما وراءه، فهو سد وسد، نحو: الضعف والضعف، والفقر والفقر . قال الكسائي وثعلب: السد والسد لغتان بمعنى واحد، وهذا مذهب الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنهما يختلفان .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الفرق بينهما قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن ما هو من فعل الله تعالى فهو مضموم، وما هو من فعل [ ص: 190 ] الآدميين فهو مفتوح، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو عبيدة . قال الفراء: وعلى هذا رأيت المشيخة وأهل العلم من النحويين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن ( السد ) بفتح السين: الحاجز بين الشيئين، و( السد ) بضمها: الغشاوة في العين، قاله أبو عمرو بن العلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وجد من دونهما " يعني: أمام السدين، " قوما لا يكادون يفقهون قولا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( يفقهون قولا ) بفتح الياء ; أي: لا يكادون يفهمونه . قال ابن الأنباري: قال اللغويون: معناه: أنهم يفهمون بعد إبطاء، وهو كقوله: وما كادوا يفعلون [ البقرة: 71 ] . قال المفسرون: وإنما كانوا كذلك ; لأنهم لا يعرفون غير لغتهم . وقرأ حمزة والكسائي: ( يفقهون ) بضم الياء، أراد: يفهمون غيرهم . وقيل: كلم ذا القرنين عنهم مترجمون ترجموا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " إن يأجوج ومأجوج " هما اسمان أعجميان، وقد همزهما عاصم . قال الليث: الهمز لغة رديئة . قال ابن عباس: يأجوج رجل ومأجوج رجل، وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام، فيأجوج ومأجوج عشرة أجزاء، وولد آدم كلهم جزء، وهم شبر وشبران وثلاثة أشبار . وقال علي عليه السلام: منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط في الطول، ولهم من الشعر ما يواريهم من الحر والبرد . وقال الضحاك: هم جيل من الترك . وقال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد، فبقيت خارجه . وروى شقيق عن حذيفة، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: " يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة [ ألف ] أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه كل قد [ ص: 191 ] حمل السلاح . قلت: يا رسول الله ; صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز . قلت: يا رسول الله ; وما الأرز ؟ قال: شجر بالشام، طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل ولا وحش، ولا جمل ولا خنزير، إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " مفسدون في الأرض " في هذا الفساد أربعة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنهم كانوا يفعلون فعل قوم لوط، قاله وهب بن منبه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنهم كانوا يأكلون الناس، قاله سعيد بن عبد العزيز .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: يخرجون إلى الأرض الذين شكوا منهم أيام الربيع، فلا يدعون شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه إلى أرضهم، قاله ابن السائب .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: كانوا يقتلون الناس، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فهل نجعل لك خرجا " قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو ، وابن عامر، وعاصم: ( خرجا ) بغير ألف . وقرأ حمزة والكسائي: ( خراجا ) بألف . وهل بينهما فرق ؟ فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد، قاله أبو عبيدة والليث .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن الخرج ما تبرعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه، قاله أبو عمرو بن العلاء . قال المفسرون: المعنى: هل نخرج إليك من أموالنا شيئا كالجعل لك ؟ [ ص: 192 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " ما مكني " وقرأ ابن كثير: ( مكنني ) بنونين، وكذلك هي في مصاحف مكة . قال الزجاج: من قرأ: ( مكني ) بالتشديد، أدغم النون في النون لاجتماع النونين . ومن قرأ: ( مكنني ) أظهر النونين ; لأنهما من كلمتين، الأولى من الفعل، والثانية تدخل مع الاسم المضمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الذي أراد بتمكينه منه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه العلم بالله وطلب ثوابه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: ما ملك من الدنيا . والمعنى: الذي أعطاني الله خير مما تبذلون لي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فأعينوني بقوة " فيها قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها الرجال، قاله مجاهد ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: الآلة، قاله ابن السائب . فأما الردم فهو الحاجز ; قال الزجاج: والردم في اللغة أكبر من السد ; لأن الردم: ما جعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مردم: إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " آتوني زبر الحديد " قرأ الجمهور: ( ردما آتوني ) ; أي: أعطوني . وروى أبو بكر عن عاصم: ( ردم ايتوني ) بكسر التنوين ; أي: جيئوني بها . قال ابن عباس: احملوها إلي . وقال مقاتل: أعطوني . وقال الفراء: المعنى: إيتوني بها، فلما ألقيت الياء زيدت ألف . فأما الزبر فهي القطع، واحدتها: زبرة، والمعنى: فأتوه بها فبناه، " حتى إذا ساوى " روى أبان: ( إذا سوى ) بتشديد الواو من غير ألف . قال الفراء: ساوى وسوى سواء . واختلف القراء في " الصدفين " فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( الصدفين ) بضم الصاد والدال، وهي لغة حمير . وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم: ( الصدفين ) بضم الصاد وتسكين الدال . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، [ ص: 193 ] وحفص عن عاصم، وخلف بفتح الصاد والدال جمعيا، وهي لغة تميم، واختارها ثعلب . وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر: ( الصدفين ) بفتح الصاد ورفع الدال . وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والزهري، والجحدري برفع الصاد وفتح الدال . قال ابن الأنباري: ويقال: صدف، على مثال: نغر، وكل هذه لغات في الكلمة . قال أبو عبيدة: الصدفان: جنبا الجبل . قال الأزهري: يقال لجانبي الجبل: صدفان، إذا تحاذيا لتصادفهما ; أي: لتلاقيهما . قال المفسرون: حشا ما بين الجبلين بالحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم، ووضع عليها المنافيخ، ثم " قال انفخوا " فنفخوا، " حتى إذا جعله " يعني: الحديد، وقيل: الهاء ترجع إلى ما بين الصدفين، " نارا " ; أي: كالنار ; لأن الحديد إذا أحمي بالفحم والمنافيخ صار كالنار . " قال آتوني " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي: ( آتوني ) ممدودة، والمعنى: أعطوني . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم: ( إيتوني ) مقصورة، والمعنى: جيئوني به أفرغه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي القطر أربعة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه النحاس، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، والزجاج . والثاني: أنه الحديد الذائب، قاله أبو عبيدة . والثالث: الصفر المذاب، قاله مقاتل . والرابع: الرصاص، حكاه ابن الأنباري . قال المفسرون: أذاب القطر ثم صبه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض، حتى صار جبلا صلدا من حديد وقطر . قال قتادة: فهو كالبرد المحبر، طريقة سوداء وطريقة حمراء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فما اسطاعوا " أصله: فما استطاعوا، فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد، أحبوا التخفيف فحذفوا . قال ابن الأنباري: إنما تقول العرب: اسطاع، تخفيفا، كما قالوا: سوف يقوم، وسيقوم، فأسقطوا الفاء . [ ص: 194 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " أن يظهروه " ; أي: يعلوه، يقال: ظهر فلان فوق البيت: إذا علاه، والمعنى: ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وإملاسه . " وما استطاعوا له نقبا " من أسفله ; لشدته وصلابته . وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا، فيعودون إليه، فيرونه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، وأراد الله عز وجل أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله، ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس " ، وذكر باقي الحديث، وقد ذكرت هذا الحديث بطوله وأشباهه في كتاب " الحدائق " فكرهت التطويل هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " قال هذا رحمة من ربي " لما فرغ ذو القرنين من بنيانه قال هذا . وفيما أشار إليه قولان: [ ص: 195 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه الردم، قاله مقاتل، قال: فالمعنى: هذا نعمة من ربي على المسلمين ; لئلا يخرجوا إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه التمكين الذي أدرك به عمل السد، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فإذا جاء وعد ربي " فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: القيامة . والثاني: وعده لخروج يأجوج ومأجوج .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " جعله دكا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( دكا ) منونا غير مهموز ولا ممدود . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( دكاء ) ممدودة مهموزة بلا تنوين . وقد شرحنا معنى الكلمة في ( الأعراف: 143 ) .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وكان وعد ربي حقا " ; أي: بالثواب والعقاب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية