الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فقال الملأ الذين كفروا من قومه أي الأشراف منهم -وهو كما قال غير واحد- من قولهم: فلان مليء بكذا إذا كان قادرا عليه لأنهم ملئوا بكفاية الأمور وتدبيرها، أو لأنهم متمالئون أي متظاهرون متعاونون، أو لأنهم يملأون القلوب جلالا، والعيون جمالا، والأكف نوالا، أو لأنهم مملئون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة على أنه من الملأ لازما، ومتعديا [ ص: 37 ] ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة.

                                                                                                                                                                                                                                      ما نراك إلا بشرا مثلنا أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه، وكذا الحال في وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي فالفعلان من رؤية العين وبشرا واتبعك حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف؛ ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني، وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط، ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين: الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا: هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم اختصصت بالنبوة من دوننا؟ والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا، وتعقب هذا بأن فيه اعتزالا خفيا، وقد بينه العلامة الطيبي ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم (مثلنا) علية لتحقيق البشرية، وقولهم وما نراك اتبعك إلخ.. استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم فجوزوا أن يكون الرسول بشرا، وقولهم الآتي وما نرى لكم علينا من فضل تسجيل بأن دعوة النبوة باطلة لإدخاله عليه السلام والأراذل في سلك على أسلوب يدل على أنهم أنقص البشر فضلا عن الارتقاء، وليس في هذا الكلام اعتزال خفي ولا المقام عنه أبي انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الانتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعا كأنهم قالوا: من حق الرسول أن يكون ملكا لا بشرا وأنت بشر، وإن جاز أن يكون الرسول بشرا فنحن أحق منك بالرسالة، ويشهد لإرادتهم الأولى قوله في الجوابولا أقول إني ملك)، ويشهد لإرادتهم الثانية وما نرى لكم).. إلخ. والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والاتباع، ولعل قولهم وما نراك اتبعك إلخ.. جواب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث اتبعه من وفق لاتباعه، فكأنهم قالوا: إنه لم يميزك اتباع من اتبعك فيوجب علينا اتباعك لأنه لم يتبعك إلا الذين هم أراذلنا أي أخساؤنا وأدانينا، وهو جمع أرذل الأغلب الأقيس في مثله إذا أريد جمعه أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم، ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء، ومعنى جريانه مجرى الاسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع، ونظير ذلك أكالب وأكلب وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا: إلا أراذلنا مبالغة في استرذالهم وكأنهم إنما استرذلوهم لفقرهم؛ لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكثر منها حظا، والأرذل من حرمها، ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة، وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة، والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه، ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا الله سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان، وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم بادي الرأي ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق، والرأي من رؤية الفكر والتأمل، وقيل: من رؤية العين وليس بذاك.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول، وهو على الأول من البدو، وعلى الثاني من البدء، والياء مبدلة [ ص: 38 ] من الهمزة لانكسار ما قبلها، وقد قرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي بها، وانتصابه على القراءتين على الظرفية –لاتبعك- على معنى اتبعوك في ظاهر رأيهم أو أوله، ولم يتأملوا ولم يتثبتوا ولو فعلوا ذلك لم يتبعوك، وغرضهم من هذا المبالغة في عدم اعتبار ذلك الاتباع، وجعل ذلك بعضهم علة الاسترذال وليس بشيء، وقيل: المعنى إنهم اتبعوك في أول رأيهم أو ظاهره وليسوا معك في الباطن.

                                                                                                                                                                                                                                      واستشكل هذا التعلق بأن ما قبل (إلا) لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستثنى منه نحو: ما قام إلا زيدا القوم، أو مستثنى نحو: جاء القوم إلا زيدا، أو تابعا للمستثنى منه نحو: ما جاءني أحد إلا زيدا خير من عمرو، و بادي الرأي ليس واحدا من هذه الثلاثة في بادي الرأي، وأجيب بأنه يغتفر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، واستشكل أمر الظرفية بأن فاعلا ليس بظرف في الأصل، وقال مكي: إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل كقريب ومليء؛ لإضافته إلى الرأي وهو كثيرا ما يضاف إلى المصدر الذي يجوز نصبه على الظرفية نحو جهد رأيي أنك منطلق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: وتابعه غيره أن الأصل وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه، ولعل تقدير الوقت ليكون نائبا عن الظرف فينتصب على الظرفية، واعتبار الحدوث بناء على أن اسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب، والمصدر ينوب عنه كثيرا فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث بمعنييه فلذا جاز فيه ذلك، وليس مرادهم أنه محذوف إذ لا داعي لذلك في المعنى على التفسيرين، وما ذكروه هنا من أن الصفات لا ينوب منها عن الظرف إلا فعيل من الفوائد الغريبة كما قال الشهاب- لكن استدركه بالمنع لأن فاعلا وقع ظرفا كثيرا كفعيل، وذلك مثل خارج الدار، وباطن الأمر وظاهره وغير ذلك مما هو كثير في كلامهم، وقيل: هو ظرف –لنراك- أي ما نراك في أول رأينا أو فيما يظهر منه، وقيل: لأراذلنا أي أنهم أراذل في أول النظر أو ظاهره لأن رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو نعت -لبشرا- وقيل: منصوب على أنه حال من ضمير نوح في ( اتبعك ) أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة فيك، وقيل: انتصب على النداء لنوح عليه السلام -أي يا بادي الرأي- أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، وقيل: هو مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة والعامل فيه ما تقدم على تقدير الظرفية.

                                                                                                                                                                                                                                      وما نرى لكم خطاب له عليه السلام ولمتبعيه جميعا على سبيل التغليب أي وما نرى لك ولمتبعيك علينا من فضل أي زيادة تؤهلكم لاتباعنا لكم، وعن ابن عباس تفسير ذلك بالزيادة في الخلق والخلق، وعن بعضهم تفسيره بكثرة الملك والملك، ولعل ما ذكرناه أولى وكأن مرادهم نفي رؤية فضل بعد الاتباع أي ما نرى فيك وفيهم بعد الاتباع فضيلة علينا لنتبع وإلا فهم قد نفوا أولا أفضليته عليه السلام في قولهم ما نراك إلخ وصرحوا بأن متبعيه –وحاشاهم- أراذل، وهو مستلزم لنفي رؤية فضل لهم عليهم. وقيل: إن هذا تأكيد لما فهم أولا، وقيل: الخطاب لأتباعه عليه السلام فقط فيكون التفاتا أي ما نرى لكم علينا شرفا في تلك التبعية لنوافقكم فيها، وحمل الفضل على التفضل والإحسان في احتمالي الخطاب على أن يكون مراد الملأ من جوابهم له عليه السلام حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه أنا لا نتبعك ولا نترك ما نحن عليه لقولك لأنك بشر مثلنا ليس فيك [ ص: 39 ] ما يستدعي نبوتك وكونك رسول الله تعالى إلينا بذلك وأتباعك أراذل اتبعوك من غير تأمل وتثبت، فلا يدل اتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفي عنا، وأيضا لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعيا لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لنوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل، فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلا لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئا بل نظنكم كاذبين جميعا لكون كلامهم واحدا ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك، قيل: واقتصروا على الظن احترازا منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما أنهم عبروا بما عبروا أولا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الإنصاف

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية