الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين

                                                                                                                                                                                                                                      فلولا كان فهلا كان من القرون الكائنة من قبلكم على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، أو كائنة من قبلكم أولو بقية من الرأي والعقل، أو أولو فضل وخير، وسميا بها؛ لأن الرجل إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجوده وأفضله، فصار مثلا في الجودة والفضل، ويقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم، ومنه ما قيل: (في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا).

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية من التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وعقابه، ويؤيده أنه قرئ: (أولو بقية) وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره، أي: أولو مراقبة وخشية من عذاب الله تعالى، كأنهم ينتظرون نزوله لإشفاقهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ينهون عن الفساد في الأرض الواقع منهم حسب ما حكي عنهم إلا قليلا ممن أنجينا منهم استثناء منقطع، أي: لكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفة على أن "من" للبيان لا للتبعيض؛ لأن جميع الناجين ناهون ولا صحة للاتصال على ظاهر الكلام؛ [ ص: 247 ] لأنه يكون تحضيضا لأولي البقية على النهي المذكور إلا للقليل من الناجين منهم، كما إذا قلت: هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم، مريدا لاستثناء الصلحاء من المحضضين على القراءة، نعم، يصح ذلك إن جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا منهم، لكن الرفع هو الأفصح حينئذ على البدلية.

                                                                                                                                                                                                                                      واتبع الذين ظلموا بمباشرة الفساد وترك النهي عنه ما أترفوا فيه أي: أنعموا من الشهوات، واهتموا بتحصيلها، أما المباشرون فظاهر، وأما المساهلون فلما لهم في ذلك من نيل حظوظهم الفاسدة، وقيل: المراد بهم تاركو النهي، وأنت خبير بأنه يلزم منه عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة وكانوا مجرمين أي: كافرين، فهو بيان لسبب استئصال الأمم المهلكة، وهو فشو الظلم واتباع الهوى فيهم، وشيوع ترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقوله: "واتبع" عطف على مضمر دل عليه الكلام، أي: لم ينهوا واتبع... إلخ، فيكون العدول إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم، وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب، أو على استئناف يترتب على قوله (إلا قليلا) أي: "إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا" من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه، فيكون الإظهار مقتضى الظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "وكانوا مجرمين" عطف على (أترفوا) أي: اتبعوا الإتراف، وكونهم مجرمين؛ لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر، أو على (اتبع) أي: اتبعوا شهواتهم، وكانوا بذلك الاتباع مجرمين، ويجوز أن يكون اعتراضا وتسجيلا عليهم بأنهم قوم مجرمون، وقرئ (وأتبع) أي: أتبعوا جزاء ما أترفوا، فتكون الواو للحال، ويجوز أن يفسر به المشهورة، ويعضده تقدم الإنجاء.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية