الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مثل من يبتغي نزول الرحمة من الله تعالى قبل التوبة مثل ساكن في بيت قد آذاه الحر والغم والذبان فكلما دخله يتصبب فيه عرقا ويتقلب في غمه ويتأذى بالذبان فإذا أراد أن يتزوج فيه ويتنعم بالجلوس والنوم والقرار فأولا ينبغي أن يخرج ما في البيت من القماشات والأطعمة التي فيها مجمع الذبان فذهب فاحتال له فرشه فلا يزال يديم الرش بالماء حتى يبرد ويبرد الماء فكلما دخله استقبله روح ذلك الرش وطيب ذلك الروح فأول فعله أن يبتدئ في كنسه فإن في ذلك [ ص: 289 ] البيت قماش ونثار الطعام ومجمع الذبان وثفل الفواكه وما يرمى به فليس من شأن هذا الذي يريد روحه أن يترك هذا البيت شبه كناسة ويرشه بالماء ليروح عنه مغتمه فإن هذا يزيده رائحة منكرة ونتنا ولكن يكنسه مرة ثم أخرى بالمكنسة الثقيلة ثم يكنسه بالمكنسة اللينة ثم يرشه بالماء رشا بعد رش فإذا دخله وجد روح ذلك الرش فإن في الماء رطوبة وبرودة فيرش الماء في كل مرة حتى تنشف الأرض الماء ويكنسه أخرى ويرش الماء ثم يبسط الحصير حتى يطيب وتزول عنه الرائحة المنكرة فإذا انتشفت الأرض رطوبة الماء بقي روح البرودة هناك وذهبت الحرارة والغمة فحينئذ إذا دخل يجد الروح والراحة فافترق الذبان

فكذلك صدر الآدمي وقلبه فإن الشهوات في قلبه فنفس الآدمي كالأتون الذي يتلظى لهب ناره من الشهوات والهوى [ ص: 290 ] وشعلها متأدية إلى جوارحه فشعلة منها تتأدى إلى العين فكلما رمى ببصره بقوة تلك الشعلة إلى شيء من زينة الدنيا رجعت إلى النفس بلذة يسكر عقله بها لأن تلك اللذة سرى حبها في نفسه فتأدى بذلك الحب إلى الصدر فسكر العقل من ذلك وتدنس فانكمن في الدماغ وامتنع من الإشراق وافتقد الصدر شعاعه الذي كان يرمي إلى الصدر فيشرق على الصدر ويستنير .منه بمنزلة شمس شعاعها تضيء به الأرض فيحول بينها وبين الأرض سحابة سوداء قامت بإزائها فذهب ضوءها فيصير البيت مظلما كالليل أو شبهه

وشعلة منها تتأدى إلى السمع فكلما ألقى سمعه إلى شيء تلذذ به السمع فتأدت اللذة إلى النفس فثار دخانها إلى الصدر وشعلة منها تتأدى إلى اللسان وشعلة إلى الحلق وشعلة إلى الفرج وشعلة إلى اليد للبطش والتناول والبذل وشعلة إلى الرجل

فهذا الصدر كمزبلة وفيه فوران هذه الشهوات والبطن كالأتون الذي يطبخ فيه اللبن قد احتدت حرارته وحميانه فصار اللبن فيه أجزاء يقال بالأعجمية بخته فلا يزال يمضر [ ص: 291 ] اللبن ويذوب حتى يصير كزبرة الحديد فكذا الشهوات في البطن حتى صارت بتلك الصفة فمتى يفلح هذا وكيف يعبد ربه

تطهير الصدور

قال الإمام أبو عبد الله رحمه الله فمن شائه أن يبتدئ في كنس هذا الصدر أن يقمه حتى يخلي صدره من كناسة الذنوب وقماشات العيوب والفضول التي فيها فإذا جاهد في هذا حق جهاده كما أمره الله في تنزيله وجاهدوا في الله حق جهاده فإذا فعل ذلك فحينئذ أمطر الله في قلبه مطر الرحمة فرش صدره بماء الرحمة فثارت البرودة إلى الجوف فأطفأت نيران الشهوات فبرد الأتون وصار الصدر مروحا ببرد الرحمة التي أمطرت عليه

فمن أراد أن يتعرف هذا من نفسه أنه هل وصل إليه مطر الرحمة فلينظر إلى هذه الشهوات التي ذكرناها التي في جوفه هل [ ص: 292 ] سكن تلظيها وانقطع لهبها عن الجوارح وهل سكنت حدة بصره بالنظر وحدة سمعه بالاستماع وحدة حلقه عند المضغ والتلمظ وحدة لسانه حتى ينطق في وقت دوران العرقين بذلك اللسان وحدة يده حين تناول وحدة وركيه حين يضطربان باختلاف القدمين وتخطي الركبتين فإذا افتقد الحدة في هذه المواضع فقد استيقن أن التلظي قد سكن في الجوف وأن القوة قوة الشهوة قد ضعفت فعندها يعلم أن مطر الرحمة من الماجد الكريم العزيز الوهاب قد حلت به وأمطرت على صدره وقلبه حتى طفئت نار .الشهوات في نفسه وبرد الأتون

فالكيس هاهنا فهم وأدرك أمره فقال في نفسه لم يزل ربي ماجدا رحيما جوادا فكيف احتبست عني رحمته حتى عملت هذه النيران في جوفي ما عملت حتى فضحني عند ربي وعند ملائكته الكتبة وعند سمائه وأرضه ثم رجع إلى عقله فبصره عقله أن هذه الرحمة امتنعت عنك لأنك تحتاج إلى غسل بيتك [ ص: 293 ] حتى تطهره من الأدناس والأوساخ فأقبل إلى الازدياد كنسا بعد كنس حتى صار بهيئة من كثرة تفقده ألا تسخو نفسه أن يترك فيها تبنة أو أدق من التبنة في ذلك البيت حتى يرفعها 88 فكلما ازداد من ذلك توقيا وتفقدا ازداد روح قلب وطيب نفس للروح والقلب فالنفس الدنية إذا شعرت برحمة الله تعالى وعلمت بذلك تنزهت في ساحات رياضها ومرحت في جنانها وأشرت وبطرت فإذا كان القلب أبله غتما وأعطي علم الرحمة أن الله تعالى رحيم نقل ذلك العلم إلى النفس حتى تأشر وتبطر وتستروح وتركض في فسحة اللذات وتستروح إلى ذلك العلم أن الله تعالى رءوف رحيم يتردى بذلك في آبار الهلاك

فإذا كان القلب كيسا نقل ذلك العلم إلى العقل فيبصر [ ص: 294 ] العقل وقال له هل يستحق الموصوف بالرحمة أن تبذل نفسك وتقوم له بأمره على أشفار عينيك وتضع أموره على رأسك من التعظيم فإن الرحمة مديحه والممدوح بالرحمة من عبيده في دار الدنيا تسمو إليه الأبصار وتهتش إليه النفوس بهذه الخصلة الموجودة فيه

وكذا كل خصلة من خصال الكرم من الحسن والبهاء تجدها في عبد من عبيده فإذا عرفته بتلك الخصلة أحببته عليها حبا يأخذ بقلبك ويسبي نفسك فربك الممدوح بهذه المدائح الموصوف بهذه الصفات أحق وأقمن أن تأخذ مدائحه قلبك وتسبي نفسك فإذا علمت أنه رحيم فزد في تعظيمه وتوقيره بأنبيائه وأحبائه وشغوفا بكلامه ونصائحه ومواعظه لك شفقة عليك ورأفة بك

فهذا العقل يدل هذا القلب الكيس على هذا

فإذا كان أبله مال إلى النفس وقارنها بالفرح بهذه الرحمة أن ربنا ملك كريم رحيم فتعال حتى نركض في هذه الشهوات .والنهمات ننتظر بها ونستقصي في نهماتها فإذا علمه في [ ص: 295 ] هذا بأن ربنا رحيم قد سود وجهه وأحرق جسده ونكس قلبه ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ دبر كل صلاة (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ودعاء لا يسمع لأنه قلب أبله جاهل بربه فهو وإن علم أن ربه رءوف رحيم فهو جاهل بالرحمة لا يدري ما الرحمة إلا علم اللسان فعلمه بالرحمة مقدار ما أن يقول في نفسه إنه إذا رحم فقد نجا من النار ولا يعلم بجهله بنفسه وبربه أن لله تعالى نقمات وسطوات يتمنى العبد أن يصرف به إلى النار

التالي السابق


الخدمات العلمية