الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3 ] فصل

والقائلون بأن المعرفة تحصل بغير العقل يفسرون كلامهم بمعنى صحيح، مثل ما ذكره الشريف أبو علي بن أبي موسى في شرح «الإرشاد» في الفقه، تصنيفه، لما شرح عقيدته المختصرة التي ذكرها في أول «الإرشاد».

قال لما ذكر التوحيد: (الكلام بعد ذلك: المعرفة هل تدرك بالعقول أم بالسمع؟) قال: (فالذي نذهب إليه قول إمامنا: إن معرفة الخالق أنه الله لا تدرك إلا بالسمع) قال: (وقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين.

فقال الأقلون منهم: إن المعرفة تدرك بالعقول، مع اتفاقهم معنا أنها لا تدرك بمجرد العقل قبل ورود السمع بها).

قال: (والدليل على أنها تدرك بالسمع، وأنه لا مدخل للعقول فيها قبل ورود السمع بها: أن العقل مخلوق كالحواس الخمس من البصر والسمع والشم واللمس والمذاق. ثم المقسوم منه يتفاضل الخلق فيه. يعلم ذلك كل أحد ضرورة، فإذا كان كذلك فاللمس لا يدرك به اللامس الأراييح، والشم لا يدرك به الشام الأصوات).

قال: (وجملة هذا أن الله لم يجعل اللمس سبيلا إلى إدراك الأراييح، ولا الشم سبيلا إلى إدراك المسموعات، بل جعل كل واحد منهما سبيلا لإدراك ما خص به، وإن كنا نجوز أن يفعل ذلك ويجعل العلم في اليد، والكلام في الرجل، والنظر في اللسان؛ لأن الجواهر من جنس [ ص: 4 ] واحد. وإذا جاز قيام الرؤية ببعضها جاز بجميعها، ولكن ذلك لا يكون في الدنيا إلا لنبي ليكون من معجزاته. ودليل تصوره كلام الذراع للنبي صلى الله عليه وسلم.

وفي الآخرة إذا أنطق الله عز وجل الجوارح بقوله: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [سورة النور: 24]، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [سورة فصلت: 21]، وبقوله: ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة [سورة القيامة: 24 - 25]).

قال: (فيجوز أن يجعل الله الظن يوم القيامة في الوجوه المعذبة. كذلك العقل لم يجعل الله له سبيلا إلى إدراك السواد والبياض، ولا إلى إدراك المشام والطعوم، بل جعل الله له سبيلا إلى التمييز بين الموجودات، وإلى إدراك فهم السمعيات، والفرق بين الحسن منها والقبيح، والباطل [ ص: 5 ] منها والصحيح، فإذا نظر إلى المصنوعات التي لا سبيل للخلق إلى مثلها، ويعجز كل فاعل عنها، وتحقق بصحة التمييز المركب فيه -إذا أراد الله هدايته- أن المحدثات لا تصنع نفسها، علم أنها مفتقرة إلى صانع، غير أنه لا يعرف من هو قبل ورود السمع، فإذا ورد السمع بأن الصانع هو الله قبله العقل، ووقع له فهم في السمع، وتحقق صحة الخبر، وعرف الله من ناحية السمع، لا من ناحية العقل؛ لأن العقل بمجرده لا يعلم من الصانع قط، وأكثر ما في بابه أن يقع به التمييز، فيبقى أن يفعل الجماد نفسه، ويقضى بالشاهد على الغائب، فأما أن يعرف من الصانع فمحال إلا من جهة السمع).

قال: (والدليل على صحة اعتبارنا أن الله خاطب العقلاء بالاعتبار، فقال فاعتبروا يا أولي الأبصار [سورة الحشر: 2] يعني البصائر. وقال: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب [سورة ق: 37] أي عقل. وقال: وليتذكر أولو الألباب [سورة ص: 29]، فأمرهم باعتبار ما جعل لهم سبيلا إلى اعتباره دون غيره.

ثم الدليل القاهر هو القاضي بصحة ما ذكرت: أن الله عز وجل حجب عن الخلق -من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر الخلق أجمعين- معرفة ما هو، ولم يجعل لهم طريقا إلى علم مائيته، ولا سبيل إلى إدراك كيفيته، جل أن يدرك أو يحاط به علما، وتعالى علوا كبيرا: ولا يحيطون به علما [سورة طه: 10]، فمنع من إحاطة العلم به، فلا سبيل لأحد إليه. [ ص: 6 ]

وقال: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [سورة الشورى: 11]، فنفى عن نفسه الأشباه والأمثال، فمنع من الاستدلال عليه بالمثلية، كما منع الدليل على إدراك كيفيته أو علم ماهيته. فهذا الذي لا سبيل للعقل إلى معرفته، ولا طريق له إلى علمه.

ثم كلف جل اسمه سائر بريته، وافترض على جميع المكلفين من خليقته علم من هو؛ ليعرف الخلق معبودهم، ويعلموا أمر إلههم وخالقهم، فلما كلفهم ذلك نصب لهم الدليل عليه سمعا، ليتوصلوا به إلى أداء ما افترض عليهم من عبادته، وعلم ما كلفهم من معرفته، علما منه جلت عظمته بأن لا طريق للعقل إلى علم ذلك بحال، فقال تعالى: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [سورة طه: 14]، وقال: ذلكم الله ربكم [سورة يونس: 3]، وقال: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم [سورة الروم: 40]، وقال: هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [سورة الحشر: 22- 24].

قال: (ولو سألهم قبل أن يسمعوا باسمه عن تأويل من خلقهم، ما كان لهم طريق إلى علم ذلك؛ لأن الأسماء لا تسمع من جهة العقل). [ ص: 7 ]

قال: (فثبت وتقرر بالدليل الذي لا يحتمل إلا ما ذكرناه: أن الله العظيم لم يعرف إلا من جهة السمع؛ لإحاطة العلم أنه لا طريق للعقل بمجرده إلى معرفة هذه الأسماء، ولا إلى معرفة المسمى، لو لم يرد السمع بذلك. ومدعي ذلك ومجوزه من ناحية العقل يعلم بطلان دعواه ضرورة).

وتكلم على قصة إبراهيم بكلام ليس هذا موضعه، إلى أن قال: (والمعرفة عندنا موهبة من الله، وتقع استدلالا لا اضطرارا؛ لأنه لو كانت تعلم بضرورة لاستوى فيها العقلاء).

إلى أن قال: (فثبت أن المعرفة لا تقع إلا من ناحية السمع، على ما نقول: إن الله لا يخلى خلقه في وقت من الأوقات، ولا في عصر من الأعصار ممن يعرفه إليهم، فتعرف إليهم على ألسنة رسله، وأرسل الرسل بالدعاء إليه، والدلالة عليه، لكيلا تسقط حجج الله.

وكان كل نبي يعرف أمته معبودهم، كقول نوح لقومه: يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله [سورة نوح: 3 - 4]، وكقول شعيب: يا قوم اعبدوا الله [سورة الأعراف: 85].

وكذلك في قصص غيرهم من الرسل، كل منهم يديم الدعوة لقومه، فإذا قبض كان حكم شريعته قائما في حال الفترة، إلى أن ينسخها الله بإرسال نبي آخر، فيقوم الثاني لأمته في التعريف والدعوة قيام الماضي لأمته، فما أخلى الله الخلق من سمع يعرفونه به، ويستدلون به على ربوبيته ومعرفة أسمائه). [ ص: 8 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية