الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 269 ] ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في عاشر المحرم منها عملت الشيعة المآتم على ما تقدم في السنتين الأوليين ، وغلقت الأسواق وعلقت المسوح ، وخرجت النساء سافرات ناشرات ، ينحن ويلطمن وجوههن في الأسواق والأزقة ، وهذا تكلف لا حاجة إليه في الدين ولا في الدنيا ، ولو كان هذا أمرا محمودا لكان صدر هذه الأمة وخيرتها أولى به ; إذ لو كان خيرا لسبقونا إليه ، وأهل السنة يقتدون ولا يبتدعون ، وتسلطت أهل السنة على الروافض ، فكبسوا مسجد براثا الذي هو عش الروافض ، وقتلوا بعض من كان فيه من القومة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها في رجب منها جاء ملك الروم بجيوش كثيفة إلى المصيصة ففتحها قسرا ، وقتل من أهلها خلقا ، واستاق بقيتهم معه أسارى ، وكانوا قريبا من مائتي ألف إنسان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجاء إلى طرسوس فسأل أهلها منه الأمان ، فأمنهم ، وأمرهم بالجلاء عنها والانتقال منها ، فاتخذ الجامع إسطبلا لخيوله ، وحرق المنبر ، ونقل قناديله إلى كنائس بلده ، وتنصر بعض أهلها معه ، لعنه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان أهل طرسوس والمصيصة قد أصابهم قبل هذا البلاء غلاء عظيم ووباء [ ص: 270 ] شديد بحيث كان يموت منهم في اليوم الواحد ثلاثمائة نفر ، ثم دهمهم هذا الأمر الشديد ، فانتقلوا من شهادة إلى شهادة أعظم منها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعزم ملك الروم على المقام بطرسوس ليكون أقرب إلى بلاد المسلمين ، ثم عن له ، فسار إلى القسطنطينية وفي خدمته الدمستق ملك الأرمن ، لعنهما الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها جعل أمر تسفير الحجيج إلى نقيب الطالبيين ، وكتب له منشور بالنقابة والحجيج ، وهو أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي وهو والد الرضي والمرتضى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفيت أخت معز الدولة ، فركب الخليفة في طيارة ، وجاء إليه فعزاه ، فقبل معز الدولة الأرض بين يديه ، وشكر له سعيه إليه ، وصدقاته عليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ثامن عشر ذي الحجة عملت الروافض عيد غدير خم على العادة الجارية التي ذكرناها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها تغلب على أنطاكية رجل يقال له : رشيق النسيمي ، بمساعدة رجل يقال له : ابن الأهوازي . وكان يضمن الطواحين ، فأعطاه أموالا ، وأطمعه في أخذ أنطاكية وأخبره أن سيف الدولة قد اشتغل بميافارقين ، وعجز عن الرجوع إلى حلب فتم لهما ما راماه من أخذ أنطاكية ثم ركبا منها في جيوش إلى حلب فجرت بينهما وبين نائب سيف الدولة حروب عظيمة ، ثم أخذ البلد ، [ ص: 271 ] وتحصن النائب بالقلعة ، وجاءت النجدة من سيف الدولة إلى حلب مع غلام له اسمه بشارة ، فانهزم رشيق ، فسقط عن فرسه ، فابتدره بعض الأعراب ، فقتله وأخذ رأسه ، فجاء به إلى حلب واستقل ابن الأهوازي سائرا إلى أنطاكية فأقام رجلا من الروم اسمه دزبر ، فسماه الأمير ، وأقام آخر من العلويين ليجعله خليفة ، وسماه الأستاذ ، فقصده نائب حلب وهو قرعويه ، فاقتتلا قتالا شديدا ، فهزمه ابن الأهوازي واستقر بأنطاكية ، فلما عاد سيف الدولة إلى حلب لم يبت بها إلا ليلة واحدة حتى سار إلى أنطاكية فاقتتلوا قتالا عظيما ، ثم انهزم دزبر وابن الأهوازي وأسرا ، فقتلهما سيف الدولة بن حمدان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ثار رجل من القرامطة اسمه مروان ، كان يحفظ الطرقات لسيف الدولة بحمص ، فملكها وما حولها ، فقصده جيش من حلب مع الأمير بدر فاقتتلوا معه ، فرماه بدر بسهم مسموم فأصابه ، واتفق أن أسر أصحاب مروان بدرا ، فقتله مروان بين يديه صبرا ، ومات مروان بعد أيام ، وتفرق أصحابه ، قبحهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها عصى أهل سجستان أميرهم خلف بن أحمد ، وذلك أنه حج في سنة ثلاث وخمسين ، واستخلف عليهم طاهر بن الحسين فطمع في الملك بعده ، واستمال أهل البلد ، فلما رجع من الحج لم يسلمه البلد ، وعصى عليه ، فذهب [ ص: 272 ] إلى بخارى إلى الأمير منصور بن نوح الساماني فاستنجده ، فبعث معه جيشا ، فاستنقذ البلد من طاهر ، وسلمها إلى الأمير خلف بن أحمد - وقد كان خلف عالما محبا للعلماء - فذهب طاهر ، فجمع جموعا ، ثم جاء فحاصر خلفا ، وأخذ منه البلد ، فرجع خلف إلى الأمير منصور الساماني فبعث معه من استرجع له البلد ثانية ، وسلمها إليه ، فلما استقر خلف بها وتمكن منها ، منع ما كان يحمله من الهدايا والتحف والخلع إلى الأمير منصور الساماني ببخارى ، فبعث إليه جيشا ، فتحصن خلف في حصن يقال له : حصن أرك . فنازله الجيش فيه تسع سنين لم يقدروا عليه ، وذلك لمناعة هذا الحصن وصعوبته وعمق خندقه وارتفاعه ، وسيأتي ما آل إليه أمره بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قصدت طائفة من الترك بلاد الخزر ، فاستنجد الخزر بأهل خوارزم فقالوا : لو أسلمتم لنصرناكم . فأسلموا إلا ملكهم ، فقاتلوا معهم الترك ، فأجلوهم عنهم ، ثم أسلم الملك بعد ذلك . ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية