الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه . منها ، أن يقال : لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقا ، وتارة ما يكون باطلا ، وهو حساس متحرك بالإرادة ، فلا بد له من أحدهما ، ولا بد له من مرجح لأحدهما . ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذب ويتضرر ، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع ، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه ، والثاني فاسد قطعا ، فتعين الأول ، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به . وبعد ذلك : إما أن تكون في فطرته محبته أنفع للعبد أو لا . والثاني فاسد قطعا ، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه .

ومنها : أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه . [ ص: 35 ] وحينئذ وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك ، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة ، كالتعليم ونحوه ، فإذا وجد الشرط ، وانتفى المانع ، استجابت لما فيها من المقتضي لذلك .

ومنها : أن يقال : من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق ، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة ، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك ، وإلا فلو علم الجماد والبهائم وحضضا لم يقبلا . ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج ، وتكون الذات كافية في ذلك ، فإذا كان المقتضي قائما في النفس وقدر عدم المعارض ، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه ، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها من يفسدها ، كانت مقرة بالصانع عابدة له .

ومنها : أن يقال ، أنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ، ولا المصلح الخارج ، كانت الفطرة مقتضية للصلاح ، لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم ، والمانع منتف .

ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله : أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية . فقال لهم : أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة ، تذهب ، فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها ، وتعود بنفسها ، فترسي بنفسها ، وتتفرغ وترجع ، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد ؟ ! ! فقالوا : هذا محال لا يمكن أبدا ! فقال لهم : إذا كان هذا محالا في سفينة ، فكيف في هذا العالم كله علوه [ ص: 36 ] وسفله ! ! وتحكى هذه الحكاية أيضا عن غير أبي حنيفة أيضا .

فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية ، الذي يقر به هؤلاء النظار ، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف ، ويجعلونه غاية السالكين ، كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره ، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه - كان مشركا من جنس أمثاله من المشركين .

التالي السابق


الخدمات العلمية