الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
779 [ ص: 151 ] حديث سادس لربيعة مرسل

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع مولاه ، ورجلا من الأنصار ، فزوجاه ميمونة ابنة الحارث ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة قبل أن يخرج .

التالي السابق


هذا الحديث قد رواه مطر الوراق ، عن ربيعة ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع ، وذلك عندي غلط من مطر ; لأن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين ، وقيل سنة سبع وعشرين ، ومات أبو رافع بالمدينة بعد قتل عثمان بيسير ، وكان قتل عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، وغير جائز ولا ممكن أن يسمع سليمان بن يسار من أبي رافع ، وممكن صحيح أن يسمع سليمان بن يسار من ميمونة لما ذكرنا من مولده ، ولأن ميمونة مولاته ، ومولاة إخوته أعتقتهم وولاؤهم لها ، وتوفيت ميمونة سنة ست وستين ، وصلى عليها ابن عباس ، فغير نكير أن يسمع منها ، ويستحيل أن يخفى عليه أمرها ، وهو مولاها ، وموضعه من الفقه موضعه .

وقصة ميمونة هذه أصل هذا الباب عند أهل العلم ، وغير ممكن سماعه من أبي رافع ، فلا معنى لرواية مطر ، وما رواه مالك أولى ، وبالله التوفيق .

[ ص: 152 ] أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوارق قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أحمد بن محمد بن هانئ أبو بكر الأثرم قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن مطر الوراق ، عن ربيعة ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو حلال ، وبنى بها ، وهو حلال ، وكنت الرسول بينهما .

وحدثناه عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه : أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن مطر قال : حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة حلالا ، وبنى بها حلالا ، وكنت الرسول بينهما .

قال أبو عمر :

في رواية مالك لهذا الحديث دليل على جواز الوكالة في النكاح ، وهو أمر لا أعلم فيه خلافا ، والرواية : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو حلال ، متواترة ، عن ميمونة بعينها ، وعن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن سليمان بن يسار مولاها ، وعن يزيد بن الأصم ، وهو ابن أختها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وأبي بكر بن عبد الرحمن [ ص: 153 ] وابن شهاب ، وجمهور علماء المدينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكح ميمونة إلا وهو حلال قبل أن يحرم .

وما أعلم أحدا من الصحابة روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة ، وهو محرم إلا عبد الله بن عباس ، ورواية من ذكرنا معارضة لروايته ، والقلب إلى رواية الجماعة أميل ; لأن الواحد أقرب إلى الغلط ، وأكثر أحوال حديث ابن عباس أن يجعل متعارضا مع رواية من ذكرنا ، فإذا كان كذلك ، سقط الاحتجاج بجميعها ، ووجب طلب الدليل على هذه المسألة من غيرها ، فوجدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن نكاح المحرم ، وقال : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح فوجب المصير إلى هذه الرواية التي لا معارض لها ; لأنه يستحيل أن ينهى عن شيء ويفعله ، مع عمل الخلفاء الراشدين لها ، وهم عمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم ، وهو قول ابن عمر ، وأكثر أهل المدينة ، وسنذكر حديث عثمان في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

[ ص: 154 ] وذكر مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي غطفان بن طريف المري قال : تزوج أبي وهو محرم ، ففرق بينهما عمر بن الخطاب .

وروى قتادة ، عن الحسن سمعه يحدث عن علي بن أبي طالب قال : أيما رجل نكح وهو محرم ، فرقنا بينه وبين امرأته ، وروى الثوري ، عن قدامة بن موسى قال : سألت سعيد بن المسيب عن محرم نكح ، قال : يفرق بينهما ، فهؤلاء يفسخون نكاح المحرم ، وهم جلة العلماء من الصحابة والتابعين ، والتفريق لا يكون إلا عن بصيرة مستحكمة ، وإن ذلك لا يكون عندهم - والله أعلم - كذلك إلا لصحته عندهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : لا يتزوج المحرم ، ولا يخطب على غيره .

[ ص: 155 ] وروى مالك ، وأيوب ، وعبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب .

قال عبد الرزاق : وأخبرني معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن ميمون بن مهران قال : سألت صفية ابنة شيبة : أتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، وهو محرم ؟ فقالت : بل تزوجها ، وهو حلال .

قال : وأخبرنا معمر ، عن أيوب ، وجعفر بن برقان قالا : كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مهران أن يسأل يزيد بن الأصم كيف تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة أحلالا أم حراما ؟ فسأله فقال : بل تزوجها حلالا ، وكتب بذلك إليه ، فهذا عمر بن عبد العزيز يقنع في ذلك بيزيد ( لعلمه باتصاله بها ، وهي خالته ، ولثقته به .

قال عبد الرزاق : وأخبرنا معمر ، عن الزهري قال : أخبرني يزيد بن الأصم ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة حلالا .

وروى حماد بن سلمة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن ميمون بن [ ص: 156 ] مهران ، عن يزيد بن الأصم ، عن ميمونة قالت : تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسرف ، وهما حلالان بعد ما رجع من مكة ، وقرأت على سعيد بن نصر : أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : أخبرنا ابن وضاح قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : أخبرنا يحيى بن آدم قال : أخبرنا جرير بن حازم قال : حدثنا أبو فزارة ، عن يزيد بن الأصم قال : حدثتني ميمونة بنت الحارث ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تزوجها وهو حلال قال : وكانت خالتي ، وخالة ابن عباس .

واختلف فقهاء الأمصار في نكاح المحرم ، فقال مالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري : لا بأس أن ينكح المحرم ، وأن ينكح .

[ ص: 157 ] وذكر عبد الرزاق ، عن محمد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه : أنه لم ير بنكاح المحرم بأسا .

قال : وأخبرنا الثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : يتزوج المحرم إن شاء لا بأس به ، قال : وقال لي الثوري : لا تلتفت فيه إلى قول أهل المدينة .

وحجة مالك ، ومن قال بقوله حديث عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن ذلك مع ما ذكرناه عن الصحابة في هذا الباب ، وتفرقة عمر بينهما تدلك على قوة بصيرته في ذلك .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : أخبرنا قاسم بن أصبغ قال : أخبرنا أحمد بن زهير قال : أخبرنا عبد الله بن جعفر قال : أخبرنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن ميمون بن مهران قال : أتيت صفية بنت شيبة ، امرأة كبيرة ، فقلت لها : أتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، وهو محرم ؟ قالت لا ، والله لقد تزوجها وهما حلالان .

وحجة العراقيين في ذلك حديث ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة بسرف ، وهو محرم ، رواه عن ابن عباس عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وجابر بن يزيد أبو الشعثاء ، ومجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، كلهم عن ابن عباس بهذا الحديث .

وذكر ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : حدثت ابن شهاب ، عن جابر بن يزيد ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 158 ] نكح ميمونة ، وهو محرم فقال ابن شهاب : حدثني يزيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو حلال قال : قلت لابن شهاب : أتجعل حفظ ابن عباس كحفظ أعرابي يبول على فخذيه ؟

حدثناه قاسم بن محمد قال : أخبرنا خلف بن سعيد قال : أخبرنا أحمد بن عمرو قال : أخبرنا محمد بن سنجر قال : أخبرنا أبو المغيرة قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثنا عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو محرم .

قال سعيد بن المسيب : وهم ابن عباس ، وإن كانت خالته ، ما تزوجها إلا بعد ما أحل .

قال أبو عمر :

هكذا في الحديث قال سعيد بن المسيب : فلا أدري أكان الأوزاعي يقوله أو عطاء .

[ ص: 159 ] قال أبو عمر :

واختلف أهل السير في الأخبار في تزويج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، فقالت طائفة : تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو محرم ، وقال آخرون : تزوجها ، وهو حلال ، على حسب اختلاف الفقهاء سواء .

وذكر الأثرم عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال : لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر توجه إلى مكة معتمرا سنة سبع ، وقدم عليه جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة ، فخطب عليه ميمونة ابنة الحارث الهلالية ، وكانت أختها لأمها أسماء بنت عميس ، ثم جعفر بن أبي طالب ، وسلمى بنت عميس ، ثم حمزة بن عبد المطلب ، وأختها لأبيها وأمها أم الفضل تحت العباس ، فأجابت جعفر بن أبي طالب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعلت أمرها إلى العباس فأنكحها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، فلما رجع بنى بها بسرف حلالا .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العام المقبل عام الحديبية [ ص: 160 ] معتمرا في ذي القعدة سنة سبع ، وهو الشهر الذي صده فيه المشركون عن المسجد الحرام ، فلما بلغ موضعا ذكره ، بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن حزن العامرية فخطبها عليه ، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب ، فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال .

قال أبو عمر :

قال أبو عبيدة : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وقال ابن شهاب : العامرية ، وهي من ولد هلال بن عامر بن صعصعة ، وقد ذكرت نسبها مرفوعا في كتاب الصحابة ، وبالله التوفيق ، وعليه التوكل .




الخدمات العلمية