الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1557 - مسألة : ولا يجوز البيع بالبراءة من كل عيب ، ولا على أن لا يقوم علي بعيب - والبيع هكذا فاسد مفسوخ أبدا ، وذهب أبو حنيفة إلى جواز البيع بالبراءة ، ولم ير للمشتري القيام بعيب أصلا - علمه البائع أو لم يعلمه .

                                                                                                                                                                                          وذهب سفيان ، والحسن بن حي ، وأبو سليمان : إلى أنه لا يبرأ بشيء من ذلك من العيوب - علمه البائع أو لم يعلمه .

                                                                                                                                                                                          وذهب الشافعي إلى أنه لا يبرأ بذلك من شيء من العيوب إلا في الحيوان خاصة فإنه يبرأ به مما لم يعلم من عيوب الحيوان المبيع ، ولا يبرأ مما علمه من عيوبه فكتمه .

                                                                                                                                                                                          ولمالك ثلاثة أقوال - : أحدها - وهو الذي ذكرنا أنه المجتمع عليه عندهم ، وهو مثل قول الشافعي حرفا حرفا ; وهو قوله في الموطأ .

                                                                                                                                                                                          والثاني - أنه لا يبرأ بذلك إلا في الرقيق خاصة ، فيبرأ مما لم يعلم ، ولا يبرأ مما علم فكتم ، وإنما في سائر الحيوان وغير الحيوان ، فلا يبرأ به من عيب أصلا .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 540 ] والثالث - وهو الذي رجع إليه ، وهو أنه لا ينتفع بالبراءة إلا في ثلاثة أشياء فقط -

                                                                                                                                                                                          وهو بيع السلطان للمغنم ، أو على مفلس .

                                                                                                                                                                                          والثاني : العيب الخفيف خاصة في الرقيق خاصة لكل أحد .

                                                                                                                                                                                          والثالث : فيما يصيب الرقيق في عهدة الثلاث خاصة .

                                                                                                                                                                                          وذهب بعض المتقدمين ، منهم : عطاء ، وشريح ، إلى أنه لا يبرأ أحد وإن باع بالبراءة ، إلا من عيب بينه ووضع يده عليه .

                                                                                                                                                                                          فأما القول بوضع اليد فرويناه عن شريح ، وصح عن عطاء .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب السختياني عن أبي عثمان النهدي قال : ما رأيتهم يجيزون من الداء إلا ما بينت ووضعت يدك عليه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ولو وجد الحنفيون ، والمالكيون مثل هذا لطاروا به كل مطار ; لأن أبا عثمان أدرك جميع الصحابة - أولهم عن آخرهم - وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يلقه .

                                                                                                                                                                                          فلو وجدوا مثل هذا فيما يعتقدونه لقالوا : إنما ذكر ذلك عن الصحابة وهذا إجماع .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وأما نحن فلا نقطع بالظنون ، ولا ندري لوضع اليد معنى ، ومثل هذا لا يؤخذ إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عن غيره - وبالله - تعالى - التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قول الشافعي : فما نعلم له حجة إلا أنه قلد ما روينا عن عثمان من طريق مالك عن ابن سعيد الأنصاري عن سالم بن عبد الله قال : إن أباه باع غلاما له بالبراءة فخاصمه المشتري إلى عثمان وقال : باعني عبدا وبه داء لم يسمه لي ؟ فقال ابن عمر : بعته بالبراءة ، فقضى عثمان على ابن عمر بأن يحلف لقد باعه الغلام وما به داء يعلمه ، فأبى ابن عمر من أن يحلف وارتجع العبد .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا عجب جدا إذ قلد عثمان ولم يقلد ابن عمر جواز البيع بالبراءة في الرقيق ، والشافعي أشد الناس إنكارا للتقليد .

                                                                                                                                                                                          ثم عجب آخر كيف قلد عثمان فيما لم يقله عثمان قط ، ولا صح عنه ، ولم يقلده في هذا الخبر نفسه في قضائه على ابن عمر بالنكول وهو صحيح عنه ؟ إن هذا هو عين العجب .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 541 ] واحتج لترجيحه رأي عثمان بأن الحيوان لا يكاد يخلو من عيب باطن ، وأنه يتغذى بالصحة والسقم ؟ فقلنا : فكان ماذا ؟ ومن أين وجب بهذا أن ينتفع بالبراءة فيه مما لم يعلمه من العيوب ولا ينفعه مما علم فكتم ؟ إن هذا لعجب ؟ فوجب رفض هذا القول لتعريه من الدلائل .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإن عثمان رضي الله عنه لم يقل : إن الحكم بما حكم به إنما هو في الحيوان دون ما سواه ، فمن أين خرج له تخصيص الحيوان بذلك ؟ فإن قالوا : إنما حكم بذلك في عبد ؟ قلنا : فلا تتعدوا بذلك العبيد ، أو الرقيق .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قسنا الحيوان على العبد ؟ قلنا : ولم لم تقيسوا جميع المبيعات على العبد ؟ فحصلوا على خبال القياس ، وعلى مخالفة عثمان ، وابن عمر ، فكيف وقد روينا هذا الخبر من طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه : أنه باع سلعة كانت له بالبراءة ، ثم ذكر الخبر بتمامه ، وقضى عثمان عليه باليمين : أنه ما باعه وبه داء يعلمه فكره ابن عمر اليمين وارتجع السلعة .

                                                                                                                                                                                          فهذا عموم لكل مبيع وإسناده متصل سالم عن أبيه ، وما نعلم لهم سلفا في تفريقهم هذا من الصحابة أصلا .

                                                                                                                                                                                          وأما أقوال مالك : فشديدة الاضطراب - : أول ذلك أنه حكى عن أحدها - وهو الموافق لقول الشافعي - أنه الأمر المجتمع عليه عندهم ، وهذا اللفظ عند مقلديه من الحجج التي لا يجوز خلافها ، وفي هذا عجبان عجيبان - : .

                                                                                                                                                                                          أحدهما - أنه روي عن عثمان ، وابن عمر خلاف هذا الأمر المجتمع عليه ، وما علمنا إجماعا يخرج منه عثمان ، وابن عمر .

                                                                                                                                                                                          والثاني - أنه رجع مالك نفسه عن هذا القول الذي ذكره أنه المجتمع عليه عندهم ، فلئن كان الأمر المجتمع عليه عندهم بالمدينة حجة لا يجوز خلافها ، فكيف استجاز مالك أن يخالف المجتمع عليه بالمدينة ، وهو الحق ؟ فلقد خالف الحق وتركه بعد [ ص: 542 ] أن علمه ، وإن كان الأمر المجتمع عليه عندهم بالمدينة ليس حجة ، ولا يلزم اتباعه ، فما بالهم يغرون الضعفاء به ، ويحتجون به في رد السنن ، أما هذا عجب ؟ فإن قالوا : لم يرجع مالك عنه إلا لخلاف وجده هنالك ؟ فقلنا : فقد جاز الوهم عليه في دعوى الإجماع ، ووجد الخلاف بعد ذلك ، فلا تنكروا مثل هذا في سائر ما ذكر فيه أنه الأمر المجتمع عليه ، ولا تنكروا وجود الخلاف فيه ، وهذا ما لا مخلص لهم منه ، إلا أن هذا القول قد بينا في إبطالنا قول الشافعي بطلانه - وبالله - تعالى - نتأيد .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله الثاني : في تخصيصه الرقيق خاصة ، فما ندري له متعلقا أصلا لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي .

                                                                                                                                                                                          ولعل قائلا يقول : إنه قلد عثمان ؟ فقلنا : وما بال تقليد عثمان دون تقليد ابن عمر وكلاهما صاحب - .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فما قلد عثمان ; لأن عثمان لم يقل إن هذا الحكم إنما هو في الرقيق خاصة ، وقد خالفه في قضائه بالنكول ، فما حصل إلا على خلاف عثمان ، وابن عمر - فبطل هذا القول أيضا لتعريه عن الأدلة جملة .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله الثالث : الذي رجع إليه فأشدها فسادا لأنه لا متعلق له بقول أحد نعلمه : لا صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا رأي له وجه .

                                                                                                                                                                                          ثم تخصيصه البيع على المفلس عجب ، وعهدة الثلاث كذلك ، ثم تخصيصه بالعيب الخفيف - وهو لم يبين ما الخفيف من الثقيل - فحصل مقلدوه في أضاليل لا يحكمون بها في دين الله - تعالى - إلا بالظن .

                                                                                                                                                                                          فسقطت هذه الأقوال كلها - وبالله - تعالى - التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قول أبي حنيفة فإنهم قالوا : قد صح الإجماع المتيقن على أنه إذا باع وبرئ من عيب سماه فإنه يبرأ منه ، ولا فرق بين تفصيله عيبا عيبا وبين إجماله العيوب ، وقالوا : قد روي قولنا عن بعض الصحابة كما ذكرنا عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، ولعلهم يحتجون { بالمسلمين عند شروطهم } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 543 ] قال أبو محمد : ما نعلم لهم شغبا غير هذا ، فأما { المسلمون عند شروطهم } فقد قدمنا : أنه باطل لا يصح وأنه لو صح لم يكن لهم فيه حجة ; لأن شروط المسلمين ليست إلا الشروط التي نص الله - تعالى - على إباحتها ورسوله صلى الله عليه وسلم لا شروطا لم يبحها الله - تعالى - ولا رسوله عليه السلام وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل شرط ليس في كتاب الله - تعالى - فهو باطل } .

                                                                                                                                                                                          وأما الرواية عن بعض الصحابة فقد اختلفوا ، ولا حجة في قول بعضهم دون بعض - وأما قولهم : لا فرق بين تفصيل العيوب وبين إجمالها ، فكذبوا ، بل بينهما أعظم الفرق ; لأنه إذا سمى العيب ووقف عليه فقد صدق وبرئ منه ، وإذا أجمل العيوب فقد كذب بيقين ; لأن العيوب تتضاد ، فصارت صفقة انعقدت على الكذب فهي مفسوخة ، وكيف لا يكون فرق بين صفقة صدق وصفقة كذب - وأما الصحابة : فقد اختلفوا ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فبطل هذا القول أيضا لتعريه من الأدلة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلنذكر الآن البرهان على صحة قولنا بحول الله - تعالى - وقوته - : وهو أن من باع بشرط أن لا يقام عليه بعيب إن وجد ، فهو بيع فاسد باطل ; لأنه انعقد على شرط ليس في كتاب الله - تعالى - ، فهو باطل ، ولأنه غش ، والغش محرم .

                                                                                                                                                                                          قال عليه السلام : { من غشنا فليس منا } " وقال عليه السلام : { الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم } .

                                                                                                                                                                                          ومن باع بالبراءة من العيوب : فلا يخلو من أن يكون أراد بذلك أن لا يقام عليه بعيب إن وجد ، وأنه بريء منه ، فقد ذكرنا أن البيع هكذا باطل أو يكون أراد فيه كل عيب فهذا باطل بيقين ; لأن الحمى عيب ، وهي من حر ، والفالج عيب وهو من برد ، وهما متضادان .

                                                                                                                                                                                          وكل بيع انعقد على الكذب والباطل فهو باطل ; لأنه انعقد على أنه لا صحة له إلا [ ص: 544 ] بصحة ما لا صحة له ، فلا صحة له - ولا فرق في هذا الوجه بين أن يسمي العيوب كلها ، أو بعضها ، أو لا يسميها ; لأنه إنما سمى عيبا واحدا فأكثر وكذب فيه ، فالصفقة باطلة ; لانعقادها على الباطل ، وعلى أن به ما ليس فيه ، وأنه على ذلك يشتريه ، فإذ ليس به ذلك العيب ، فلا شراء له فيه - وهذا في غاية الوضوح - وبالله - تعالى - التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فإن باع وسكت ولم يبرأ من عيب أصلا ولا شرط سلامة ، فهو بيع صحيح إن وجد العيب فالخيار لواجده في رد أو إمساك ، وإلا فالبيع لازم - وبالله - تعالى - التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية