الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير

                                                                                                                                                                                                                                        يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا قال خيثمة : كل شيء في القرآن يا أيها الذين آمنوا ففي التوراة يا أيها المساكين . وقال ابن مسعود : إذا قال الله يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه . وقال الزهري : إذا قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا افعلوا ، فالنبي منهم . ومعنى قوله : قوا أنفسكم وأهليكم نارا أي اصرفوا عنها النار ، ومنه قول الراجز


                                                                                                                                                                                                                                        ولو توقى لوقاه الواقي وكيف يوقى ما الموت لاقي

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 44 ]

                                                                                                                                                                                                                                        وفيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : معناه قوا أنفسكم ، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : قوا أنفسكم ومروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيكم الله بهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم ، قاله علي وقتادة ومجاهد . وفي الوصية التي تقيهم النار ثلاثة أقاويل : أحدها : يأمرهم بطاعة الله وينهاهم عن معصيته ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : يعلمهم فروضهم ويؤدبهم في دنياهم ، قاله علي .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : يعلمهم الخير ويأمرهم به ، ويبين لهم الشر ، وينهاهم عنه . قال مقاتل : حق ذلك عليه في نفسه وولده وعبيده وإمائه . وقودها الناس والحجارة في ذكر الحجارة مع الناس ثلاثة أقاويل : أحدها : أنها الحجارة التي عبدوها ، حتى يشاهدوا ما أوجب مصيرهم إلى النار ، وقد بين الله ذلك في قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم الثاني : أنها حجارة من كبريت وهي تزيد في وقودها النار وكان ذكرها زيادة في الوعيد والعذاب ، قاله ابن مسعود ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أنه ذكر الحجارة ليعلموا أن ما أحرق الحجارة فهو أبلغ في إحراق الناس . روى ابن أبي زائدة قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم الآية ، وعنده بعض أصحابه ، ومنهم شيخ فقال الشيخ : يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال والذي نفسي بيده لصخرة من جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها ، فوقع الشيخ مغشيا عليه ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي ، فقال : يا شيخ قل لا إله إلا الله ، فقال بها ، فبشره بالجنة ، فقال أصحابه : يا رسول الله أمن بيننا؟ قال : نعم لقول الله تعالى : ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 45 ]

                                                                                                                                                                                                                                        عليها ملائكة غلاظ شداد يعني غلاظ القلوب ، شداد الأفعال وهم الزبانية . لا يعصون الله ما أمرهم أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان . ويفعلون ما يؤمرون يعني في وقته فلا يؤخرونه ولا يقدمونه . يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا فيه خمسة تأويلات : أحدها : أن التوبة النصوح هي الصادقة الناصحة ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أن لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : أن النصوح هي التي لا يحتاج معها إلى توبة .

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس : أن يتوب من الذنب ولا يعود إليه أبدا ، قاله عمر بن الخطاب . وهي على هذه التأويلات مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة . وفي أخذها منها وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض . ومنهم من قرأ نصوحا بضم النون ، وتأويلها على هذه القراءة توبة نصح لأنفسكم ، ويروي نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم بضالته يجدها بأرض فلاة عليها زاده وسقاؤه) .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 46 ]

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية