الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية الثالثة :

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } فيها سبع مسائل :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : في سبب نزولها : قال ابن إسحاق وغيره : قال أبو جهل : يا معشر قريش ، والله ما أرانا إلا قد أعذرنا في أمر هذا الرجل من بني عبد المطلب ، والله لئن أصبحت ، ثم صنع كما كان يصنع في صلاته ، لقد أخذت صخرة ، ثم رضخت رأسه فاسترحنا منه ، فامنعوني عند ذلك ، أو أسلموني . قالوا : يا أبا الحكم ، والله لا نسلمك أبدا .

                                                                                                                                                                                                              فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الليلة غدا إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه ، وغدا أبو جهل معه حجر ، وقريش في أنديتهم ينظرون ما يصنع ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليه أبو جهل بذلك الحجر ، فلما دنا منه رجع منهزما منتفعا لونه ، كادت روحه تفارقه ، فقام إليه نفر من قريش ممن سمع ما قال تلك الليلة ، قالوا : يا أبا الحكم ، مالك ؟ فوالله لقد كنت مجدا في أمرك ، ثم رجعت بأسوإ هيئة رجع بها رجل ، وما رأينا دون محمد شيئا يمنعه منك . فقال : ويلكم ، والله لعرض دونه لي فحل من الإبل ، ما رأيت مثل هامته وأنيابه وقصرته لفحل قط ، يخطر دونه ، لو دنوت لأكلني .

                                                                                                                                                                                                              فلما قالها أبو جهل قام النضر بن الحارث فقال : يا معشر قريش ، والله لقد نزل [ ص: 225 ] بساحتكم أمر ما أراكم ابتليتم به قبله ، قلتم لمحمد : شاعر ، والله ما هو بشاعر . وقلتم : كاهن ، والله ما هو بكاهن . وقلتم ساحر ، والله ما هو بساحر . وقلتم : مجنون ، والله ما هو بمجنون . والله لقد كان محمد أرضاكم فيكم : أصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، وخيركم جوارا ، حتى بلغ من السن ما بلغ ، فأبصروا بصركم ، وانتبهوا لأمركم .

                                                                                                                                                                                                              فقالت قريش : هل أنت يا نضر خارج إلى أحبار يهود بيثرب ، ونبعث معك رجلا ; فإنهم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف نحن ومحمد فيه ، تسألهم ، ثم تأتينا عنهم بما يقولون ؟ قال : نعم . فخرجوا ، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط ، فقدما على أحبار اليهود ، فوصفا لهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه ، وخلافهم إياه ، فقالوا لهما : سلوه عن ثلاث خلال ، نأمركم بهن : سلوه عن فتية مضوا في الزمن الأول ، وقد كان لهم خبر ونبأ ، وحديث معجب ، وأخبروهم خبرهم . وسلوه عن رجل طواف قد بلغ من البلاد ما لم يبلغ غيره من مشارقها ومغاربها يقال له ذو القرنين ، وأخبروهم خبره . وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بهؤلاء الثلاث فالرجل نبي فاتبعوه ، وإن لم يفعل فالرجل كذاب ، فروا رأيكم .

                                                                                                                                                                                                              فقدم النضر وعقبة على قريش مكة ، فقالا : قد أتيناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، أمرتنا أحبار يهود أن نسأله عن ثلاثة أمور ، فإن أخبرنا بهن فهو نبي مرسل ، فاتبعوه ، وإن عجز عنها فالرجل كذاب .

                                                                                                                                                                                                              فمشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ; أخبرنا عن ثلاثة أمور ، نسألك عنها ، فإن أخبرتنا عنها فأنت نبي . أخبرنا عن فتية مضوا في الزمن الأول ، كان لهم حديث معجب ، وعن رجل طواف بلغ من البلاد ما لم يبلغه غيره ، وعن الروح ما هو ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { غدا أخبركم عن ذلك } ولم يستثن ، فمكث عنه جبريل بضع عشرة ليلة ، ما يأتيه ، ولا يراه حتى أرجف به أهل مكة ، قالوا : إن محمدا وعدنا أن يخبرنا عما سألناه عنه غدا ، فهذه بضع عشرة ليلة ، فكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث جبريل عنه ، ثم جاءه بسورة الكهف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لقد احتبست عني [ ص: 226 ] يا جبريل حتى سؤت ظنا } فقال له جبريل : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } . ثم قرأ سورة الكهف . فنزل في أمر الفتية : { أم حسبت أن أصحاب الكهف } إلى آخر القصة .

                                                                                                                                                                                                              فقال حين فرغ من وصفهم ، وتبين له خبرهم : { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا } . يقول لا منازعة ، ولا تبلغ بهم فيها جهد الخصومة ، ولا تستفت فيهم منهم أحدا ، لا اليهود الذين أمروهم أن يسألوك ، ولا الذين سألوا من قريش ، يقول : قد قصصنا عليك خبرهم على حقه وصدقه . ونزل في قوله : أخبركم به غدا قوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } فإنك لا تدري ما الله صانع في ذلك أيخبرهم عما يسألونك عنه ؟ أم يتركهم ؟ { واذكر ربك إذا نسيت } الآية . وجاءه : { ويسألونك عن الروح } الآية ، وزعموا أنه ناداهم الروح جبريل .

                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : وبلغنا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال له أحبار يهود : بلغنا يا محمد أن فيما تلوت حين سألك قومك عن الروح وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، فإيانا أردت بها أم قومك ؟ فقال : كلا أريدكم بها } . قالوا : أوليس فيما تتلو : إنا أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء ؟ قال : { بلى ، والتوراة في علم الله قليل ، وهي عندكم كثير مجزئ } فيذكرون والله أعلم أن هؤلاء الآيات نزلن عند ذلك : { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } إلى آخر الآيات .

                                                                                                                                                                                                              وقد روي في الصحيح أن اليهود سألوه عن الروح بالمدينة ، وقد تقدم ذلك من قبل . وهو أصح .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية