الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2485 باب الترغيب في النكاح

                                                                                                                              وقال النووي: (باب استحباب النكاح: لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه. واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم ).

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص172 ج9 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن علقمة ; قال: كنت أمشي مع عبد الله، بمنى. فلقيه عثمان، فقام معه يحدثه. فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن! ألا نزوجك [ ص: 130 ] جارية شابة ؟ لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك. قال فقال عبد الله: لئن قلت ذاك، لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج. فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" . ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن علقمة ) رضي الله عنه، (قال: كنت أمشي مع عبد الله ) يعني: "ابن مسعود". (بمنى. فلقيه عثمان ) رضي الله عنهما، (فقام معه يحدثه. فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن! ألا نزوجك جارية شابة ؟ )

                                                                                                                              فيه: استحباب عرض الصاحب هذا على صاحبه، الذي ليست له زوجة بهذه الصفة، وهو صالح لزواجها.

                                                                                                                              وفيه: استحباب نكاح الشابة، لأنها المحصلة لمقاصد النكاح. فإنه ألذ استمتاعا، وأطيب نكهة، وأرغب في الاستمتاع، الذي هو مقصود النكاح، وأحسن عشرة، وأفكه محادثة، وأجمل منظرا، وألين ملمسا، وأقرب إلى أن يعودها زوجها الأخلاق التي يرتضيها.

                                                                                                                              (لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك ).

                                                                                                                              أي: تتذكر بها بعض ما مضى من نشاطك، وقوة شبابك. فإن ذلك ينعش البدن.

                                                                                                                              [ ص: 131 ] وفي رواية أخرى: (ألا نزوجك جارية بكرا ؟ لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد ).

                                                                                                                              (قال: فقال عبد الله: لئن قلت ذاك، لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب!" ).

                                                                                                                              المعشر: هم الطائفة، الذين يشملهم وصف ;

                                                                                                                              فالشباب معشر. والشيوخ معشر. والأنبياء معشر. والنساء معشر. فكذا ما أشبهه.

                                                                                                                              "والشباب": جمع "شاب". ويجمع على: "شبان" وشببة.

                                                                                                                              قال الأزهري: لم يجمع "فاعل" على "فعال" وغيره. وأصله: الحركة. والنشاط. وهو اسم لمن بلغ، إلى أن يكمل ثلاثين. هكذا أطلق الشافعية. حكاه في "الفتح"..

                                                                                                                              وقال القرطبي في "المفهم": يقال له: "حدث" إلى ست عشرة سنة. ثم "شاب" إلى اثنتين وثلاثين. ثم "كهل".

                                                                                                                              وقال الزمخشري: "الشاب" من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين.

                                                                                                                              وقال ابن شاس المالكي: إلى أربعين.

                                                                                                                              [ ص: 132 ] وقال النووي: الأصح المختار ; أن "الشاب": من بلغ ولم يجاوز الثلاثين ). ثم هو "كهل" إلى أن يجاوز الأربعين. ثم هو "شيخ".

                                                                                                                              وقال الروياني وطائفة: من جاوز الثلاثين سمي "شيخا".

                                                                                                                              زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين.

                                                                                                                              وقال أبو إسحاق الإسفرايني: المرجع في ذلك "اللغة". وأما بياض الشعر، فيختلف باختلاف الأمزجة.

                                                                                                                              هكذا في الفتح.

                                                                                                                              (من استطاع منكم الباءة ) فيها أربع لغات، حكاها عياض ; الفصيحة المشهورة: "الباءة" بالمد والهاء.

                                                                                                                              والثانية: "الباة" بلا مد.

                                                                                                                              والثالثة: "الباء" بالمد بلا هاء.

                                                                                                                              الرابعة: "الباهة" بهاءين بلا مد.

                                                                                                                              قال النووي: أصلها في اللغة: "الجماع". مشتقة من المباءة وهي المنزل. ومنه: "مباءة الإبل"، وهي مواطنها. ثم قيل لعقد النكاح: "باءة"، لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 133 ] والمراد بالباءة هنا على الأصح: "الجماع".

                                                                                                                              أي: من استطاع منكم الجماع، لقدرته على مؤنه "وهي مؤن النكاح". (فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج ) أي: أشد غضا، وأشد إحصانا له، ومنعا من الوقوع في الفاحشة.

                                                                                                                              (ومن لم يستطع ) الجماع، لعجزه عن مؤنه: (فعليه بالصوم ).

                                                                                                                              هذا من إغراء الغائب. ولا تكاد العرب تغري إلا الشاهد. تقول: "عليك زيدا". ولا تقول: "عليه زيدا".

                                                                                                                              قال الطيبي: وجوابه: أنه لما كان الضمير للغائب راجعا إلى لفظة "من"، وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: "يا معشر الشباب"، وبيان لقوله: "منكم": جاز قوله: "عليه" لأنه بمنزلة الخطاب.

                                                                                                                              وأجاب عياض: بأن الحديث ليس فيه إغراء الغائب، بل الخطاب للحاضرين، الذين خاطبهم أولا بقوله: "من استطاع منكم". وقد استحسنه القرطبي والحافظ.

                                                                                                                              والإرشاد إلى الصوم ; لما فيه من الجوع، والامتناع من مثيرات الشهوة، ومستدعيات طغيانها.

                                                                                                                              (فإنه له وجاء ) بكسر الواو وبالمد: وهو رض الخصيتين. قاله النووي.

                                                                                                                              [ ص: 134 ] وقال في شرح المنتقى: أصله: "الغمز". وجأه في عنقه: إذا غمزه. ووجأه بالسيف: إذا طعنه به. ووجأ أنثييه: غمزهما حتى رضهما.

                                                                                                                              وتسمية الصيام وجاء: "استعارة"، والعلاقة المشابهة. لأن الصوم، لما كان مؤثرا في ضعف شهوة النكاح، شبهه بالوجاء. انتهى.

                                                                                                                              قال النووي: والمراد هنا: أن الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شر المني، كما يفعله الوجاء.

                                                                                                                              وعلى هذا القول، وقع الخطاب مع الشبان الذين هم مظنة شهوة النساء، ولا ينفكون عنها غالبا.

                                                                                                                              وقيل: المراد هنا "بالباءة": مؤن النكاح. سميت باسم ما يلازمها.

                                                                                                                              وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح، فليتزوج. ومن لم يستطعها فليصم، ليدفع شهوته.

                                                                                                                              قال النووي: والذي حمل القائلين بهذا على هذا، أنهم قالوا: العاجز عن الجماع، لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على: "المؤن".

                                                                                                                              وأجاب الأولون بما تقدم، وهو أن تقديره: من لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه، وهو محتاج إلى الجماع، فعليه بالصوم. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 135 ] وقيل: "الباءة" بالمد: القدرة على مؤن النكاح. وبالقصر: الوطء. حكاه في "شرح المنتقى".

                                                                                                                              قال عياض: لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله: "من استطاع الباءة"، أي: بلغ الجماع وقدر عليه: فليتزوج. ويكون قوله: "من لم يستطع" أي: لم يقدر على التزويج.

                                                                                                                              قال الحافظ: ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم، بأن يراد بالباءة: القدرة على الوطء، ومؤن التزويج.

                                                                                                                              وقد وقع في رواية، من طريق أبي عوانة: "من استطاع منكم أن يتزوج، فليتزوج".

                                                                                                                              وفي رواية النسائي: "من كان ذا طول فلينكح".

                                                                                                                              ومثله لابن ماجه: من حديث عائشة. والبزار: من حديث أنس. انتهى.

                                                                                                                              قال النووي: وفي هذا الحديث: الأمر بالنكاح، لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه. وهذا مجمع عليه. لكنه عندنا وعند العلماء كافة: أمر ندب لا إيجاب، فلا يلزم التزوج ولا التسري، سواء خاف العنت أم لا. هذا مذهب العلماء.

                                                                                                                              ولا يعلم أحد أوجبه إلا داود، ومن وافقه من أهل الظاهر، ورواية [ ص: 136 ] عن أحمد، فإنهم قالوا: يلزمه "إذا خاف العنت"، أن يتزوج أو يتسرى.

                                                                                                                              قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة.

                                                                                                                              ولم يشرط بعضهم: خوف العنت.

                                                                                                                              قال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزويج فقط، ولا يلزمه الوطء. وتعلقوا بظاهر الأمر في هذا الحديث، مع غيره من الأحاديث، مع القرآن. قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، وغيرها من الآيات.

                                                                                                                              واحتج الجمهور به، إلى قوله: أو ما ملكت أيمانكم . وقالوا": خيره "سبحانه"، بين النكاح والتسري

                                                                                                                              قال المازري: ولو كان النكاح واجبا، لما خيره بين التسري وبينه، لأنه لا يصح عند الأصوليين: التخيير بين واجب وغيره. لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب. وأن تاركه لا يكون آثما.

                                                                                                                              قال الشوكاني "في نيل الأوطار": قد استدل بهذا الحديث، على أن من لم يستطع الجماع، فالمطلوب منه: ترك التزويج، لإرشاده صلى [ ص: 137 ] الله عليه وآله وسلم: من كان كذلك، إلى ما ينافيه ويضعف داعيه.

                                                                                                                              وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه مكروه في حقه. انتهى.




                                                                                                                              الخدمات العلمية