الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الذي اشتراه من مصر وهو العزيز الذي كان على خزائنه، واسمه قطفير أو إطفير، وبيان كونه من مصر لتربية ما يتفرع عليه من الأمور مع الإشعار بكونه غير من اشتراه من الملتقطين بما ذكر من الثمن البخس، وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد العمليقي ومات في حياة يوسف - عليه السلام - بعد أن آمن به، فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه إلى الإسلام فأبى، وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى - عليه السلام - عاش أربعمائة سنة لقوله عز وجل: ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء، واختلف في مقدار ما اشتراه به العزيز، فقيل: بعشرين دينارا، وزوجي نعل، وثوبين أبيضين، وقيل: أدخلوه في السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا ووزنه ورقا ووزنه حريرا، فاشتراه قطفير بذلك المبلغ، وكان سنه إذ ذاك سبع عشرة سنة، وأقام في منزله مع ما مر عليه من مدة لبثه في السجن ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.

                                                                                                                                                                                                                                      لامرأته راعيل، أو زليخا، وقيل: اسمها هو الأول والثاني لقبها، واللام متعلقة بـ(قال) لا بـ(اشتراه) أكرمي مثواه اجعلي محل إقامته كريما مرضيا، والمعنى أحسني تعهده عسى أن ينفعنا في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا أو نتخذه ولدا أي: نتبناه، وكان ذلك لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة، ولذلك قيل: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر ، وابنة شعيب التي قالت: (يا أبت استأجره) وأبو بكر حين استخلف عمر - رضي الله عنهما - وكذلك نصب على المصدرية وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلام العزيز، وما فيه من معنى البعد لتفخيمه، أي: مثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف في الأرض أي: جعلنا له فيها مكانا، يقال: مكنه فيه، أي: أثبته فيه ومكن له فيه أي: جعل له فيه مكانا، ولتقاربهما وتلازمهما يستعمل كل منهما في محل الآخر، قال عز وجل:"وكم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم " أي: ما لم نمكنكم فيها، أو مكنا لهم في الأرض... إلخ، والمعنى: كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز، أو مكانا عليا في قلبه - حتى أمر امرأته دون سائر حواشيه بإكرام مثواه - جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر ، ولعله عبارة عن جعله وجيها بين أهلها ومحببا في قلوبهم كافة، كما في قلب العزيز؛ لأنه الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قوله تعالى: ولنعلمه من تأويل الأحاديث أي: نوفقه لتعبير بعض المنامات التي عمدتها رؤيا الملك وصاحبي السجن؛ لقوله تعالى: ذلكما مما علمني ربي سواء جعلناه معطوفا على غاية مقدرة ينساق إليها الكلام ويستدعيها النظام، كأنه قيل: ومثل ذلك التمكين مكنا ليوسف في الأرض، وجعلنا قلوب [ ص: 263 ] أهلها كافة محال محبته؛ ليترتب عليه ما ترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز "ولنعلمه بعض تأويل الأحاديث" وهو تأويل الرؤيا المذكورة، فيؤدي ذلك إلى الرياسة العظمى، ولعل ترك المعطوف عليه للإشعار بعدم كونه مرادا بالذات، أو جعلناه علة لمعلل محذوف، كأنه قيل: ولهذه الحكمة البالغة فعلنا ذلك التمكين دون غيرها مما ليس له عاقبة حميدة.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا، ولا يخفي عليك أن الذي عليه تدور هذه الأمور إنما هو التمكين في جانب العزيز، وأما التمكين في جانب الناس كافة فتأديته إلى ذلك إنما هي باعتبار اشتماله على ذلك التمكين، فإذن الحق أن يكون (ذلك) إشارة إلى مصدر قوله تعالى: "مكنا ليوسف " على أن يكون هو عبارة عن التمكين في قلب العزيز، أو في منزله، وكون ذلك تمكينا في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها لا عن تمكين آخر يشبه به، كما مر في قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا من أن ذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده، لا إلى جعل آخر يقصد تشبيه هذا الجعل به، فالكاف مقحم للدلالة على فخامة شأن المشار إليه إقحاما لا يكاد يترك في لغة العرب ولا في غيرها، ومن ذلك قولهم: مثلك لا يبخل، وهكذا ينبغي أن يحقق المقام، وأما التمكين بمعنى جعله ملكا يتصرف في أرض مصر بالأمر والنهي، فهو من آثار ذلك التعليم ونتائجه المتفرعة عليه كما عرفته، لا من مبادئه المؤدية إليه فلا سبيل إلى جعله غاية له، ولم يعهد منه - عليه السلام - في تضاعيف قضاياه العمل بموجب المنامات المنبهة على الحوادث قبل وقوعها عهدا مصححا لجعله غاية لولايته.

                                                                                                                                                                                                                                      وما وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عمل بموجب الرؤيا السابقة المعهودة، اللهم إلا أن يراد بتعليم تأويل الأحاديث ما سبق من تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية، ودقائق سنن الأنبياء - عليهم السلام - فيكون المعنى حينئذ: مكنا له في أرض مصر ليتصرف فيها بالعدل، ولنعلمه معاني كتب الله تعالى وأحكامها ودقائق سنن الأنبياء - عليهم السلام - فيقضي بها فيما بين أهلها، والتعليم الإجمالي لتلك المعاني والأحكام - وإن كان غير متأخر عن تمكينه بذلك المعنى - إلا أن تعليم كل معنى شخصي - يتفق في ضمن الحوادث والإرشاد إلى الحق في كل نازلة من النوازل - متأخر عن ذلك، صالح لأن يكون غاية له.

                                                                                                                                                                                                                                      والله غالب على أمره لا يستعصي عليه أمر ولا يمانعه شيء، بل إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فيدخل في ذلك شئونه المتعلقة بيوسف دخولا أوليا، أو متول على أمر يوسف لا يكله إلى غيره، وقد أريد به من الفتنة ما أريد مرة غب مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كذلك، فيأتون ويذرون - زعما منهم - أن لهم من الأمر شيئا وأنى لهم ذلك، وإن الأمر كله لله عز وجل، أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية