الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم [ ص: 310 ] غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " أن أسر بعبادي " ; أي : سر بهم ليلا من أرض مصر ، " فاضرب لهم طريقا " ; أي : اجعل لهم طريقا ، " في البحر يبسا " قرأ أبو المتوكل ، والحسن ، والنخعي : ( يبسا ) بإسكان الباء . وقرأ الشعبي ، وأبو رجاء ، وابن السميفع : ( يابسا ) بألف . قال أبو عبيدة : ( اليبس ) متحرك الحروف ، بمعنى اليابس ، يقال : شاة يبس ; أي : يابسة ليس لها لبن . وقال ابن قتيبة : يقال لليابس : يبس ويبس .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " لا تخاف " قرأ الأكثرون بألف . وقرأ أبان وحمزة عن عاصم : ( لا تخف ) . قال الزجاج : من قرأ : ( لا تخاف ) فالمعنى : لست تخاف ، ومن قرأ : ( لا تخف ) فهو نهي عن الخوف . قال الفراء : قرأ حمزة : ( لا تخف ) بالجزم ، ورفع ( ولا تخشى ) على الاستئناف ، كقوله تعالى : يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون [ آل عمران : 111 ] ، استأنف بـ " ثم " ، فهذا مثله ، ولو نوى حمزة بقوله : ( ولا تخشى ) الجزم وإن كانت فيه الياء ، كان صوابا . قال ابن قتيبة : ومعنى " دركا " : لحاقا . قال المفسرون : قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر بين أيدينا ، فأنزل الله على موسى : " لا تخاف دركا " ; أي : من فرعون ، " ولا تخشى " غرقا في البحر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فأتبعهم فرعون " قال ابن قتيبة : لحقهم . وروى هارون عن أبي عمرو : ( فاتبعهم ) بالتشديد . وقال الزجاج : تبع الرجل الشيء وأتبعه بمعنى واحد . ومن قرأ بالتشديد ففيه دليل على أنه اتبعهم ومعه الجنود ، ومن قرأ : ( فأتبعهم ) فمعناه : ألحق جنوده بهم ، وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ ، [ ص: 311 ] وجائز أن لا يكون ، إلا أنه قد كان معهم . " فغشيهم من اليم ما غشيهم " ; أي : فغشيهم من ماء البحر ما غرقهم . وقال ابن الأنباري : ويعني بقوله : " ما غشيهم " : البعض الذي غشيهم ; لأنه لم يغشهم كل مائه . وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة ، وأبو رجاء ، والأعمش : ( فغشاهم من اليم ما غشاهم ) بألف فيهما مع تشديد الشين وحذف الياء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وأضل فرعون قومه " ; أي : دعاهم إلى عبادته ، " وما هدى " ; أي : [ ما ] أرشدهم حين أوردهم موارد الهلكة . وهذا تكذيب له في قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [ غافر : 29 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وواعدناكم جانب الطور الأيمن " لأخذ التوراة . وقد ذكرنا في [ مريم : 52 ] معنى " الأيمن " ، وذكرنا في ( البقرة : 57 ) " المن والسلوى " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ قوله تعالى: " كلوا " ; أي : وقلنا لهم : كلوا ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولا تطغوا " فيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : لا تبطروا في نعمي [ فتظلموا ] . والثاني : لا تجحدوا نعمي فتكونوا طاغين . والثالث : لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليلة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فيحل عليكم غضبي " ; أي : فتجب لكم عقوبتي . والجمهور قرؤوا : ( فيحل ) بكسر الحاء ( ومن يحلل ) بكسر اللام . وقرأ الكسائي : ( فيحل ) بضم الحاء ( ومن يحلل ) بضم اللام . قال الفراء : والكسر أحب إلي ; لأن الضم من الحلول ، ومعناه : الوقوع ، و( يحل ) بالكسر : يجب ، وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فقد هوى " ; أي : هلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وإني لغفار " الغفار : الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى ، فكلما تكررت ذنوبهم تكررت مغفرته ، وأصل الغفر : الستر ، وبه سمي [ زئبر ] الثوب : [ ص: 312 ] غفرا ; لأنه يستر سداه . فالغفار : الستار لذنوب عباده ، المسبل عليهم ثوب عطفه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " لمن تاب " قال ابن عباس : لمن تاب من الشرك ، " وآمن " ; أي : وحد الله وصدقه ، " وعمل صالحا " أدى الفرائض .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله تعالى : " ثم اهتدى " ثمانية أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : علم أن لعمله هذا ثوابا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : لم يشكك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث : علم أن ذلك توفيق من الله [ له ] ، رواه عطاء عن ابن عباس . والرابع : لزم السنة والجماعة ، قاله سعيد بن جبير . والخامس : استقام ، قاله الضحاك . والسادس : لزم الإسلام حتى يموت عليه ، قاله قتادة . والسابع : اهتدى كيف يعمل ، قاله زيد بن أسلم . والثامن : اهتدى إلى ولاية بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ثابت البناني .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية