الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 334 ] 2 ( الباب الخامس )

                                                                                                                3 ( في بدل الوضوء ، والغسل ، وهو التيمم )

                                                                                                                وهو من خصائص هذه الأمة لطفا من الله تعالى بها ، وإحسانا إليها ، وليجمع لها في عبادتها بين التراب الذي هو مبدأ إيجادها ، والماء الذي هو سبب استمرار حياتها إشعارا بأن هذه العبادة سبب الحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية جعلنا الله تعالى من أهلها من غير محنة .

                                                                                                                وهو في اللغة : من الأم بفتح الهمزة ، وهو القصد يقال : أمه ، وأممه ، وتأممه إذا قصده ، وأمه أيضا شجه في وسط رأسه .

                                                                                                                ومن الأول : قوله تعالى : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) أي لا تقصدوه ، ثم نقل في الشرع للفعل المخصوص .

                                                                                                                وأوجبه لتحصيل مصالح أوقات الصلوات قبل فواتها ، ولولا ذلك لأمر عادم الماء بتأخير الصلاة حتى يجد الماء ، وهذا يدل على أن اهتمام الشرع بمصالح الأوقات أعظم من اهتمامه بمصالح الطهارة .

                                                                                                                فإن قلت : فأي مصلحة في إيقاع الصلاة في وقتها دون ما قبله ، وبعده مع جزم العقل باستواء أفراد الأزمان .

                                                                                                                قلت : اعتمد العلماء رضوان الله عليهم في ذلك على حرف واحد ، وهو : أنا استقرأنا عادة الله تعالى في شرعه ، فوجدناه جالبا للمصالح ، ودارئا للمفاسد ، وكذلك [ ص: 335 ] قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا سمعت نداء الله تعالى ، فارفع رأسك ، فتجده إما يدعوك لخير ، أو ليصرفك عن شر .

                                                                                                                فمن ذلك إيجاب الزكوات ، والنفقات لسد الخلات ، وأروش الجنايات جبرا للمتلفات ، وتحريم القتل والزنا والمسكر والسرقة والقذف صونا للنفوس والأنساب والعقول والأموال ، وإعراضا عن المفسدات ، وغير ذلك من المصالح الدنيويات ، والأخرويات ، ونحن نعلم بالضرورة أن الملك إذا كان من عادته إكرام العلماء ، وإهانة الجهلاء ، ثم رأيناه خصص شخصا بالإكرام ، ونحن لا نعرف حاله ، فإنه يغلب على ظننا أنه عالم على جريان العادة ، وكذلك ما تسميه الفقهاء بالتعبد معناه أنا لا نطلع على حكمته ، وإن كنا نعتقد أن له حكمة ، وليس معناه أنه لا حكمة له .

                                                                                                                ولأجل هذه القاعدة أمر مالك - رحمه الله - بإعادة الصلاة في الوقت لترك السنن ; لأن الإعادة حينئذ تحصل مصلحة الوقت والسنة ، ومجموعهما مهم بخلاف خارج الوقت لذهاب مصلحة الوقت ، ولا يلزم من الاهتمام بمجموع مصلحتين الاهتمام بإحداهما .

                                                                                                                ثم يبحث الفقهاء في هذا الباب في أسبابه ، والذي يؤمر بالتيمم من هو ، والذي يتيمم به وصفة التيمم ، والمتيمم له ، ووقت التيمم ، والأحكام التابعة للتيمم ، فهذه فصول سبعة . ( الفصل الأول )

                                                                                                                3 ( في أسبابه ، وهي ستة )

                                                                                                                الأولى : عدم الوجدان للماء ، وإنما يتحقق عند بذل الجهد في الطلب في حق من يمكنه استعماله ، ويدل على وجوب الطلب إلى حين الصلاة أن الوضوء واجب إجماعا فيجب طلب الماء ; لأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به ، وهو مقدور للمكلف ، فهو واجب فيكون طلب الماء واجبا حتى يتبين العجز فيتيمم حينئذ ، ولأن المفهوم من قوله تعالى : ( فلم تجدوا ماء ) أي بعد الطلب قال صاحب [ ص: 336 ] الطراز : الطلب الواجب على قدر الوسع ، والحالة الموجودة ، فقد روى ابن القاسم في العتبية لا بأس بسؤال المسافر أصحابه الماء في موضع يكثر فيه أما موضع يعدم ، فلا ، وروى أشهب إنما يطلبه ممن يليه ، ويرجوه ، فليس عليه أن يطلب أربعين رجلا ، وقال عبد الملك ، وأصبغ ، وابن عبد الحكم : يطلب في الرفقة العظيمة ممن حوله ، فإن لم يفعل ، فقد أساء ، ولا يعيد ، وإن كانت الرفقة يسيرة ، ولم يطلبه أعاد في الوقت إلا أن يكون الرجل والرجلان ، وشبههما ، وهم متقاربون ، فليعد أبدا لكثرة الرجاء .

                                                                                                                وقالوا : المرأة التي لا تخرج تؤخر الصلاة إلى آخر الوقت ، ثم تخرج ، فتطلب .

                                                                                                                إذا تقرر هذا ، ففي الجواهر أربع حالات :

                                                                                                                إحداهما تحقق العدم حوله فيتيمم من غير طلب .

                                                                                                                الثانية : أن يتوهمه حوله ، فليفحص فحصا لا مشقة فيه ، وهذا يختلف بحسب القوي ، والضعيف ، والرجل ، والمرأة .

                                                                                                                الثالثة : أن يعتقد قربه فيلزمه السعي له ، وحد القرب عدم المشقة ، وفوات الرفقة ، وروي في كتاب محمد بن المواز : من شق عليه نصف الميل ، فقال سحنون : لا يعدل للميلين ، وإن كان آمنا ; لأن البعد يؤدي إلى خروج وقت الصلاة ، وقال في الكتاب : إذا غابت الشمس ، وقد خرج من قرية يريد قرية أخرى ، وهو غير مسافر إن طمع في الماء قبل مغيب الشفق مضى إليه ، وإلا تيمم . قال صاحب الطراز : هذا يقتضي أن وقت المغرب الاختياري إلى مغيب الشفق ، وهو مذهبه في الموطأ ، فإن التيمم لا يؤخر عن وقت الاختيار ، ولو جاز ذلك لجاز بعد الشفق ، فعلى القول بعدم امتداده لا يؤخر تيممه إلى الشفق .

                                                                                                                قال التونسي : ويتخرج فيها قول آخر بالتأخير إلى ما بعد الشفق لقوله : ( في الحضر ) بخلاف إن رفع الماء من البئر ، أو ذهب إلى النهر أنه لا يتيمم .

                                                                                                                وكذلك خرجه ابن حبيب أيضا قال : وهو عندي لا يصح لغلبة الماء في الحضر بخلاف الصحراء ما بين القريتين .

                                                                                                                [ ص: 337 ] حجة المذهب قوله تعالى : ( فلم تجدوا ماء ) ، وهو يغلب على ظنه وجدانه ، وروى مالك عن نافع قال : أقبلت أنا ، وعبد الله بن عمر من الجرف حتى إذا كنا بالمربد تيمم ، فمسح وجهه ، ويديه إلى المرفقين ، ثم صلى ، والمربد من المدينة على ميلين .

                                                                                                                قال القاضي في التنبيهات : الجرف بضم الجيم والراء ، والمربد بكسر الميم ، والباء بواحدة من تحتها ، ولأن التيمم إنما يشرع لتحصيل مصلحة الوقت .

                                                                                                                قال سحنون : لا يعدل الخارج من القرية إلى ميل ، وكذلك المسافر ؛ يريد لا يخرج عن مقصده ، وهو لا يخالف قول مالك ، فإن قول مالك محمول على الذي يكون ذلك قصده .

                                                                                                                الرابعة : أن يكون الماء حاضرا لكن ليس له آلة توصل إليه ، فإنه يتيمم لأنه فاقد .

                                                                                                                ولو وجده لكن إن اشتغل بالنزع خرج الوقت قال في الكتاب : يعالجه عند المغاربة ، وإن خرج الوقت ، ويتيمم عند العراقيين ، ولو كان بين يديه لكن لو استعمله خرج الوقت . قال ابن شاس : يستعمله عند المغاربة لأنه واجد ، ويتيمم عند القاضي أبي محمد ، وحكاه الأبهري رواية .

                                                                                                                قال ابن يونس : ولا فرق عندي بين تشاغله باستعماله ، أو باستخراجه من البئر ، فإن المقصود الصلاة في الوقت قال : وكذلك قال ابن القصار ، والقاضي عبد الوهاب ، وفرق ابن القصار أيضا ، فقال : في الجمعة يتوضأ ، ولو خاف فواتها ; لأن الظهر هي الأصل ، ووقتها باق ، وسوى بينهما بعض الأصحاب بجامع الفريضة ، وقال بعضهم : يتيمم ، ويعيد الصلاة احتياطا .

                                                                                                                قال عبد الحق في النكت : والفرق بين النزع من البئر ، والاستعمال أن المستعمل واجد ، والنازح فاقد ، وإنما هو يتسبب ليجد . [ ص: 338 ] فرعان :

                                                                                                                الأول : لو كان مع ثلاثة نفر قدر كفاية أحدهم ماء وأحدهم جنب ، والآخر محدث ، والثالث ميت . قال صاحب الطراز : قال ابن القاسم : الحي أولى ، وييمم الميت إلا أن يكون الماء للميت ; لأن الحي يصلي بطهارته على الميت ، وغيرها من الصلوات ، والميت يصلى عليه بها فقط ، ولأن حالة طهارة الحي تعود على الميت ، وحال طهارة الميت لا تعود على الحي ، فإن كان الماء للميت ، واحتاج إليه الحي ليشربه أخذه ، ويقوم بثمنه للوارث ، وليس له دفع مثله إذا رجع إلى بلده ، وإن كان الماء بينهما ، فالحي أولى به ، وقال القاضي : الميت أولى به .

                                                                                                                فعلى البحث الأول إذا كان مع رجل ما يغتسل به ، ووجد جنبا ، وميتا يكون الحي أولى بهبته من الميت خلافا ش في قوله : إن المقصود من طهارة الميت النظافة ، ولا تحصل إلا بالماء ، وطهارة الحي المقصود منها الإباحة ، والتيمم كاف في ذلك ، ولأنه آخر عهده من الدنيا بالطهارة ، والحي يتطهر بعد ذلك .

                                                                                                                وجواب الأول أن المقصود بطهارة الميت الصلاة عليه ، والنظافة تبع ، ولهذا إذا لم يوجد الماء لا يصلى عليه حتى ييمم ، وكذلك الشهيد لما لم يصل عليه لم يغسل .

                                                                                                                وعن الثاني أن هذه الصلاة آخر عهده من الصلوات فينبغي أن تكمل .

                                                                                                                والجنب أولى من المحدث لعموم منع الجنابة ، ولأن الجنب مستعمل جملة الماء ، والمحدث يترك بعضه بلا انتفاع .

                                                                                                                وعلى هذا لو اجتمع جنب ، وحائض هل تكون الحائض أولى لكونها تستفيد بالغسل أكثر من الجنب ، أو يستويان ؟ وهو الظاهر ; لأن الغسل واحد بخلاف الوضوء ، فإنه بعض الغسل للجنابة .

                                                                                                                [ ص: 339 ] الثاني : قال في الكتاب : إذا كان معه ما يكفيه للوضوء ، وهو جنب تيمم ، ولا يتوضأ في أول تيممه ، ولا ثانيه ، ويغسل بذلك الماء النجاسة خلافا ش في أمره بالوضوء حتى يصير فاقدا للماء .

                                                                                                                لنا : أنه بدل ، والبدل هو الذي شأنه أن يحل محل المبدل ، ولا يجمع بينهما ، والفرق بين صورة النزاع ، والمسح على الخف في كونه يجمع بين مسحه ، وغسل غيره أنه بدل عن غسل الرجلين لا عن المغسول ، وبينها ، وبين النجاسة أن الماء يطهر من الخبث كل موضع غسل به ، ولو قل بخلاف المحدث لا تحصل طهارته إلا بجملة الغسل .

                                                                                                                والفرق بين الغسل للجنابة ، والتيمم للجنابة في كون الوضوء شرع مع الغسل دون التيمم أمران :

                                                                                                                أحدهما أن الوضوء من جنس الغسل شرع بين يديه أهبة له كالمضمضة ، والاستنشاق قبل الوضوء ، والإقامة بين يدي الصلاة ، والصدقة بين يدي النجوى ، وهو ليس من جنس التيمم ، فلا يشرع تهيؤا له .

                                                                                                                وثانيهما أن أعضاء الوضوء أشرف الجسد لكونها موضع التقرب إلى الله ، فكانت البداءة به أولى ، والتيمم شرع في عضوين منها ، فالوضوء يأتي عليهما ، وعلى غيرهما ، فلا معنى للبداية بالوضوء . السبب الثاني : في الجواهر : الخوف من فوات النفس ، أو عضو ، أو منفعة ، أو زيادة مرض ، أو تأخر برء ، أو حدوث مرض يخاف معه ما ذكرناه ، وروى بعض البغداديين لا يتيمم لتوقع المرض ، أو لزيادته ، أو تأخر البرء ، أو مجرد الألم ، فلا يبيح التيمم لقوله تعالى : ( وإن كنتم مرضى ) ، وما رواه أبو داود عن [ ص: 340 ] عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ، ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا عمرو صليت بأصحابك ، وأنت جنب ، فأخبرته الذي منعني من الاغتسال ، وقلت سمعت الله تعالى يقول : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) ، فضحك ، ولم يقل شيئا ، ولأن الفطر أبيح للمريض مع عدم الأذى ، فهاهنا أولى ، وخالفنا الشافعي - رحمه الله - في تأخير البرء ، وحجتنا عليه أنه ضرر عليه فيكون منفيا قياسا على توقع المرض ، ولقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) . قاعدة : المشاق قسمان :

                                                                                                                أحدهما لا تنفك عنه العبادة كالوضوء ، والغسل في البرد ، والصوم في النهار الأطول ، والمخاطرة بالنفوس في الجهاد ، ونحو ذلك لا يوجب تخفيفا في العبادة لأنها قررت معه .

                                                                                                                والقسم الثاني : تنفك العبادة عنه ، وهو ثلاثة أنواع :

                                                                                                                نوع في المرتبة العليا : كالخوف على النفوس ، والأعضاء ، والمنافع ، فهذا يوجب التخفيف ; لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا ، والآخرة ، فلو حصلنا هذه العبادة لثوابها لذهب أمثالها .

                                                                                                                ونوع في المرتبة الدنيا : كأذى وجع في أصبع ، فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة لشرف العبادة ، وخسة هذه المشقة .

                                                                                                                النوع الثالث : مشقة بين هذين النوعين ، فما قرب من العليا أوجب التخفيف ، وما قرب من الدنيا لم يوجب ، وما توسط يختلف فيه لتجاذب الطرفين له ، فعلى هذه القاعدة تتخرج الفتاوى في مشاق العبادات .

                                                                                                                تتميم : قال بعض العلماء : تختلف المشاق باختلاف رتب العبادات ، فما كان [ ص: 341 ] في نظر الشرع أهم اشترط في إسقاطه أشد المشاق ، أو أعمها ، فإن العموم بكثرته يقوم مقام العظم كما سقط التطهر من الخبث في الصلاة التي هي أفضل العبادات بسبب التكرار كدم البراغيث ، وثوب المرضع ، وكما سقط الوضوء فيها بالتيمم لكثرة عدم الماء ، أو الحاجة إليه ، أو العجز عن استعماله ، وما لم تعظم رتبته في نظر الشرع تؤثر فيه المشاق الخفيفة .

                                                                                                                وجميع بحث هذه القاعدة يطرد في أبواب الفقه ، فكما وجدت المشاق في الوضوء على ثلاثة أقسام : متفق على اعتباره ، ومتفق على عدم اعتباره ، ومختلف فيه ، كذلك نجد في الصوم ، والحج ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتوقان الجائع للطعام عند حضور الصلاة ، والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء ، والمشي في الوحل ، وغضب الحكام ، وجوعهم المانع من استيفاء النظر ، وغير ذلك ، وكذلك الغرر ، والجهالة في البيع ثلاثة أقسام . سؤال : ما ضابط المشقة المؤثرة في التخفيف من غيرها ؟ فإنا إذا سألنا الفقهاء يقولون : ذلك يرجع إلى العرف فيحيلون على غيرهم ، ويقولون : لا نحد ذلك ، فلم يبق بعد الفقهاء إلا العوام ، والعوام لا يصح تقليدهم في الدين ؟

                                                                                                                جوابه : هذا السؤال له وقع عند المحققين إن كان سهلا في بادي الرأي ، ونحن نقول : ما لم يرد الشرع بتحديده يتعين تقريبه بقواعد الشرع ; لأن التقريب خير من التعطيل لما اعتبره الشرع ، فنقول : على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص ، أو إجماع ، أو استدلال ، ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة ، أو أعلى جعله مسقطا ، وإن كان أدنى لم يجعله . مثاله : التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بحديث كعب بن عجرة ، فأي مرض آذى مثله ، أو أعلى منه أباح ، وإلا فلا ، والسفر مبيح الفطر بالنص فيعتبر به غيره من المشاق .

                                                                                                                سؤال آخر : ما لا ضابط له ، ولا تحديد وقع في الشرع على قسمين : قسم اقتصر فيه على أقل ما تصدق عليه تلك الحقيقة كمن باع عبدا ، واشترط أنه [ ص: 342 ] كاتب ، يكفي في هذا الشرط مسمى الكتابة ، ولا يحتاج إلى المهارة فيها في الوفاء بالشرط ، وكذلك شروط السلم في سائر الأوصاف ، وأنواع الحرف يقتصر على مسماها دون مرتبة معينة منها .

                                                                                                                والقسم الآخر : ما وقع مسقطا للعبادات لم يكتف الشرع في إسقاطها بمسمى تلك المشاق بل لكل عبادة مرتبة معينة من مشاقها المؤثرة في إسقاطها ، فما الفرق بين العبادات ، والمعاملات ؟

                                                                                                                جوابه : العبادات مشتملة على مصالح المعاد ، ومواهب ذي الجلال ، وسعادة الأبد السرمدية ، فلا يليق تفويتها بمسمى المشقة مع يسارة احتمالها ، ولذلك كان ترك الرخص في كثير من العبادات أولى ، ولأن تعاطي العبادة مع المشقة أبلغ في إظهار الطاعة ، وأبلغ في التقرب ، ولذلك قال عليه السلام : ( أفضل العبادة أحمزها ) أي أشقها ، وقال : أجرك على قدر نصبك .

                                                                                                                وأما المعاملات ، فتحصل مصالحها التي بذلت الأعواض فيها بمسمى حقائق الشروط بل التزام غير ذلك يؤدي إلى كثرة الخصام ، ونشر الفساد ، وإظهار العناد . فروع ثلاثة :

                                                                                                                الأول : قال صاحب الطراز : إذا تيمم المريض من الجنابة ، ثم أحدث حدث الوضوء ، وهو قادر عليه لم يتوضأ ; لأن الجنابة تسقط حكم الحدث الأصغر ، ويتيمم لكل صلاة للجنابة .

                                                                                                                الثاني : قال : إذا قدر المريض على الوضوء ، والصلاة قائما ، فحضرت الصلاة ، وهو في عرقه ، فخاف إن فعل ذلك انقطع عرقه ، ودام عليه المرض قال مطرف ، وعبد الملك ، وأصبغ : يتيمم ، ويصلي إيماء للقبلة ، وإن خرج الوقت قبل زوال عرقه لم يعد ، وهذا موافق للمذهب لأنه تأخير البرء .

                                                                                                                [ ص: 343 ] الثالث : قال : إذا عظمت بطنه حتى لا يتمكن من تناول الماء ، أو أدركه الميد في البحر حتى لا يملك نفسه يتيمم لأنه وسعه . السبب الثالث : الجراح المانعة من استعمال الماء قال في الكتاب : قيل لابن القاسم : إذا عمته الجراح ؟ قال : يتيمم ، قيل : فأكثره جريح قال : يغسل الصحيح ، ويمسح الجريح ، قيل له : لم يبق إلا يد ، أو رجل صحيحة قال : لا أحفظ عن مالك فيها شيئا ، وأرى أن يتيمم ، وقال ابن الجلاب : من كانت به جراح في أكثر جسده ، وهو جنب ، أو في أكثر أعضاء وضوئه ، وهو محدث يتيمم . قال صاحب الطراز : إن كان مراده أن الأكثر متفرق في الجسد منع مس السالم ، فهو موافق لقول ابن القاسم ، وإلا ، فهو مخالف لمذهب الكتاب ، وموافق لأبي حنيفة ، فإن أصحاب الرأي يقولون : إن كان أقله مجروحا جمع بين الماء ، والتيمم ، أو سالما كفاه التيمم ، وعند الشافعي لا يكفي فيما صح إلا الغسل ، وإن قل ، وإذا مسح ، وغسل يتيمم أيضا بناء على أصله فيمن وجد بعض كفايته من الماء ، فإنه يستعمله ؛ لما في أبي داود عن جابر رضي الله عنه قال : خرجنا في سفر ، فأصاب رجلا منا حجر ، فشجه في رأسه ، فقال لأصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا لا نجد لك رخصة ، وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل ، فمات ، فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا ؟ ! إنما شفاء العي السؤال ؛ إنما كان يكفيه أن يتيمم ، ويعصر ، أو يعصب على جرحه خرقة ، ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده . يريد أن إحدى هاتين الحالتين تجزئه على حسب حال المجروح ، ولا معنى للتيمم مع الغسل ; لأن البدل ، والمبدل منه لا يجتمعان .

                                                                                                                فرع : قال عبد الحق في النكت عن بعض الأصحاب : إذا لم يبق منه إلا يد ، أو رجل ، فغسل الصحيح ، ومسح الجراح لم يجزه ؛ لأنه لم يأت بالغسل ، ولا ببدله الذي هو التيمم ، ولو تحمل المشقة ، وغسل الجميع أجزأه ; لأن التيمم حقه ، فإذا أسقطه سقط كمن صلى قائما مع مبيح الجلوس . السبب الرابع : غلاء الماء إن كان لا يجد الماء إلا بثمن ، وهو قليل الدراهم يتيمم ، أو كثيرها اشتراه ما لم يكثر الثمن فيتيمم . أما الشراء فقياسا على الرفع من [ ص: 344 ] البئر ، والطلب في الفلوات بجامع المشقة ، وأما إذا كثر الثمن ، فلا يشتريه ؛ لما فيه من المضرة ، وليس في الكثير حد قال في المختصر : ليس عليه أن يشتريه بأضعاف ثمنه إلا بثمنه ، أو شبهه ، وقال في المجموعة : ليس عليه شراء القربة بعشرة دراهم ، قال ابن الجلاب : يحتمل أن يحد بالثلث ، واعتبر أصحاب الشافعي مطلق الزيادة .

                                                                                                                فرع : في الجواهر : لو وهب له الماء لزمه قبوله عند القرويين لعدم المنة في مثل هذا ، ولا يلزمه عند القاضي أبي بكر ، وقيل : إنما يلزمه قبول ثمن الماء ، وقال ابن شاس : يلزمه الماء قولا واحدا بخلاف الثمن . السبب الخامس : خوف العطش على نفسه : قاله في الكتاب ، وفي التفريع ، وإن خافه على غيره ، وكذلك قاله ش ح قال صاحب الكتاب : يكفي ضرر العطش من غير تلف كالجبيرة ، ولا فرق بين خوف العطش الآن ، أو في المستقبل . السبب السادس : في الجواهر : الخوف على النفس ، أو المال من السارق ، أو السبع ، وقيل : الخوف على المال لا يبيح .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية