الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
127 [ ص: 161 ] حديث سابع لربيعة مرسل منقطع

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن : أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت مضطجعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب واحد ، وأنها وثبت وثبة شديدة ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لك ؟ لعلك نفست - يعني الحيضة - قالت : نعم قال : شدي على نفسك إزارك ، ثم عودي إلى مضجعك .

[ ص: 162 ]

التالي السابق


[ ص: 162 ] ( هكذا هذا الحديث في الموطأ - كما روي - منقطع ) ، ويتصل معناه من حديث أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم أنه روي من حديث عائشة بهذا اللفظ ألبتة ، وسنذكر في هذا الباب ما روي فيه عن عائشة ، وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله .

ولم يختلف رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث كما روي .

وروى حبيب ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عروة ، وسعيد بن المسيب ، عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضاجع أم سلمة ، وهي حائض ، عليها بعض الإزار ، وما انفرد به حبيب لا يحتج به .

وفيه من الفقه نوم الرجل الشريف مع أهله في ثوب واحد وسرير واحد .

وفيه أن الحيض قد يأتي فجأة دون مقدمة من العلامات لبعض النساء ، وبعضهن ترى قبله صفرة أو كدرة كما ترى بعده .

وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله لقوله : ما لك ؟ لعلك نفست .

وقوله نفست يقول : لعلك أصبت بالدم يعني الحيضة ، والنفس الدم ، ألا ترى إلى قول إبراهيم النخعي ، وهو عربي فصيح : كل ما ليس له نفس سائلة يموت في الماء لا يفسده ، يعني دما سائلا .

وفيه أن الحائض يجوز أن يباشر منها ما فوق الإزار لقوله : ثم عودي إلى مضجعك ، ومعلوم أنها إذا عادت إليه في ثوب واحد [ ص: 163 ] معه أن يباشرها ، فإذا كان ذلك كذلك ، كان هذا الحديث يفسر قول الله عز وجل فاعتزلوا النساء في المحيض ; لأنه يحتمل قوله " اعتزلوا النساء " أي : لا تكونوا معهن في البيوت ، ويحتمل اعتزلوا وطأهن لا غير ، فأتت السنة مبينة مراد الله عز وجل من قوله ذلك .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد قال : حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك : أن اليهود كانت إذا حاضت منهن امرأة أخرجوها من البيت ، ولم يواكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيت ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض إلى آخر الآية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جامعوهن في البيوت ، واصنعوا كل شيء غير النكاح ، فقالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه ، فجاء [ ص: 164 ] أسيد بن حضير ، وعباد بن بشر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا له : يا رسول الله إن اليهود تقول كذا ، وكذا أفلا ننكحهن في المحيض ، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أنه قد وجد عليهما ، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث في أثرهما فسقاهما ، فظننا أنه لم يجد عليهما .

أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أم سلمة قالت : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لحافه فوجدت ما يجد النساء من الحيضة ، فانسللت من اللحاف فقال [ ص: 165 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنفست ؟ قلت : وجدت ما يجد النساء من الحيضة ، قال : ذلك ما كتب الله على بنات آدم ، قالت : فانسللت فأصلحت من شأني ، ثم رجعت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تعالي فادخلي في اللحاف ، قالت : فدخلت معه .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا محمد بن سابق قال : حدثنا شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن زينب بنت أبي سلمة حدثته أن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : حضت وأنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخميلة ، قالت : فانسللت فخرجت منها ، فأخذت ثياب حيضتي فلبستها ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنفست ؟ قالت : قلت : نعم ، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة .

هذا حديث حسن صحيح ثابت في معنى حديث ربيعة ، عن عائشة ، رواه عن يحيى بن أبي كثير جماعة هكذا ، ورواه محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة كما ذكرنا ، والقول عندهم قول يحيى بن أبي كثير ، وهو أثبت من محمد بن عمرو في أم [ ص: 166 ] سلمة ، وقد أدخل بين أبي سلمة ، وأم سلمة زينب بنت أم سلمة ، وهو الصواب .

وحدثني محمد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب القاضي قال : حدثنا مسدد بن مسرهد قال : حدثنا أبو عوانة ، عمرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها كانت تنام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض ، وبينهما ثوب ( وعمرو بن أبي سلمة كان شعبة يضعفه ، وليس بالحافظ ، وإسناد يحيى عن أبي سلمة ، عن زينب ، عن أم سلمة صحيح عندهم ، وإسناد حديث عائشة أيضا ، وميمونة في هذا الباب صحيح ، والحمد لله ) .

حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تتزر ، ثم يضاجعها ، وقال مرة : يباشرها .

وحدثني محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا الحارث بن مسكين قراءة عليه ، وأنا أسمع ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن حبيب مولى عروة ، عن [ ص: 167 ] ندية ( وكان الليث يقول : ندبة ) مولاة ميمونة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به . ، وفي حديث الليث : محتجزته .

( حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا يزيد بن خالد قال : حدثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن حبيب مولى عروة ، عن ندية مولاة ميمونة ، عن ميمونة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يباشر امرأته وهي حائض إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به ) .

قال أبو داود : يونس يقول : ندية ، ومعمر يقول : ندبة .

وحدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : [ ص: 168 ] حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا في فوح حيضتنا أن نتزر ، ثم يباشرنا ، وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه ؟ .

( وذكر دحيم ، قال : حدثنا الوليد بن سلم قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد ، عن سويد بن قيس التجيبي أن قرط بن عوف حدثه أنه سأل عائشة فقال : يا أم المؤمنين أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضاجعك ، وأنت حائض ؟ فقالت : نعم ، إذا [ ص: 169 ] شددت علي إزاري ، وذلك إذ لم يكن إلا فراش واحد ، فلما رزقنا الله فراشين ، اعتزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا لا نعلم يروى إلا من حديث ابن لهيعة ، وليس بحجة ) ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الواحد قال : حدثنا سليمان الشيباني قال : حدثنا عبد الله بن شداد ، عن ميمونة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه ، وهي حائض ، أمرها فائتزرت .

وحدثنا عبد الله بن محمد الجهني قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا محمد بن شعيب قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تشد إزارها ، ثم يباشرها . ( وروي عن عائشة رضي الله عنها من وجوه حسان كلها ) .

قال أبو عمر :

هذه الآثار كلها في معنى حديث ربيعة ، عن عائشة ، وظاهرها أن الحائض لا يباشر منها إلا ما فوق الإزار .

[ ص: 170 ] واختلف الفقهاء في مباشرة الحائض ، وما يستباح منها ، فقال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : له منها ما فوق المئزر .

وممن روى عنه هذا المعنى القاسم ، وسالم ، وحجتهم ما ذكرنا في هذا الباب من الآثار ، عن عائشة ، وميمونة ، وأم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقال الثوري ، ومحمد بن الحسن ، وبعض أصحاب الشافعي : يجتنب مواضع الدم ، وممن روى عنه هذا المعنى ابن عباس ، ومسروق ، والنخعي ، وعكرمة ، وهو قول داود بن علي .

ومن حجتهم حديث ثابت ، عن أنس قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( جامعوهن في البيوت ، واصنعوا كل شيء ما خلا النكاح ) أو قال : ما خلا الجماع ، وقد ذكرناه في هذا الباب .

ومن حجتهم أيضا حديث عائشة قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن حيضتك ليست في يدك . ا هـ .

( أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن ثابت بن عبيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : [ ص: 171 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن حيضتك ليست في يدك ) .

وحدثنا عمر بن الحسين بن محمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدثنا أسد بن موسى ا هـ .

ووجدت في أصل سماع أبي رحمه الله بخطه أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن ثابت بن عبيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ناوليني الخمرة من المسجد ، قلت : إني حائض قال : إن حيضتك ليست في يدك .

قال أسد بن موسى ، وحدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أنس ، عن ابن عمر ، عن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله .

قال أسد : وحدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أنس ، عن عائشة مثله ، ولم يذكر ابن عمر .

[ ص: 172 ] ( وذكر دحيم ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البهي ، عن ابن عمر ، عن عائشة مثله ) .

قال دحيم : وحدثنا محمد بن عبيد ، عن حريث ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ناوليني الثوب ، قلت : إني حائض ، قال : إن الحيض ليس في يدك فناولته ، قال دحيم : وحدثنا يعلى ، عن عثمان بن حكيم ، عن جدته الرباب : أن عثمان بن حنيف قال : يا جارية ناوليني الخمرة فقالت : لست أصلي فقال : إن حيضتك ليست في يدك ، فناولته ، فقام فصلى .

[ ص: 173 ] قال أبو عمر :

فدل ما في هذا الحديث أن كل عضو منها ليس فيه الحيضة في الطهارة ، يعني ما كان قبل الحيض ، ودل على أن الحيض ليس يغير شيئا من المرأة مما كان عليه قبل ، غير موضع الحيض وحده .

( قال أبو جعفر الطحاوي : ما في هذا الحديث أن كل عضو منها ليس فيه الحيضة في الطهارة ، يعني ما كان عليه قبل ، غير موضع الحيض وحده ) .

وروى أبو معشر ، عن إبراهيم ، عن مسروق قال : سألت عائشة : ( ( ما يحل لي من امرأتي ، وهي حائض ؟ فقالت : كل شيء إلا الفرج ) ) رواه أيوب ، عن أبي معشر ، وروى أيوب أيضا ، عن أبي قلابة ، عن عائشة مثله .

وأخبرنا عمر بن حسين ، عن أبيه قال : حدثني علي بن أحمد بن أبي جعفر الطحاوي ، عن أبيه قال : حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدثنا شعيب بن الليث قال : حدثنا الليث ، عن بكر بن الأشج ، عن أبي مرة ، عن عقيل ، عن حكيم بن عفان قال : سألت عائشة : ما يحرم علي من امرأتي إذا حاضت ؟ فقالت : فرجها . ( وذكره دحيم ، قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، عن [ ص: 174 ] سعيد بن أيوب ، عن يزيد بن حبيب ، عن بكر بن عبد الله الأشج ، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب ، عن حكيم بن عقال قال : سألت عائشة : ما يحرم علي من امرأتي ، وهي حائض ؟ قالت : فرجها ) .

ومن حجة من قال الأول : ما رواه زيد بن أسلم : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يحل لي من امرأتي ، وهي حائض ؟ فقال : لتشد عليها إزارها ، ثم شأنك بأعلاها ، وحديث ميمونة ، وأم سلمة ، وعائشة على ما ذكرنا في هذا الباب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض إلا وهي متزرة ، وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر :

يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - بمباشرة الحائض ، وهي متزرة على الاحتياط ، والقطع للذريعة ، ولو أنه أباح فخذها كان ذلك ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع ، فنهى عن ذلك احتياطا ، والمحرم بعينه موضع الأذى ، ويشهد لهذا ظاهر القرآن ، وإجماع معاني الآثار لئلا يتضاد ، وبالله التوفيق .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : قال : حدثنا عبد الله يعني [ ص: 175 ] ابن عمر بن غانم ، عن عبد الرحمن يعني ابن زياد ، عن عمارة بن غراب : أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة قالت : إحدانا تحيض ، وليس لها ولزوجها إلا فراش واحد ، قالت : أخبرك بما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل فمضى إلى المسجد ، قال أبو داود : تعني مسجد بيته فلم ينصرف حتى غلبتني عيناي ، وأوجعه البرد فقال : ادن مني ، فقلت : إني حائض فقال : وأن اكشفي عن فخذك ، فكشفت ، فوضع خده وصدره على فخذي ، وحنيت عليه حتى دفئ ونام .

واختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته ، وهي حائض ، فقال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وهو قول ربيعة ، ويحيى بن سعيد : يستغفر الله ، ولا شيء عليه ، ولا يعود ، وبه قال داود .

وروي عن محمد بن الحسن أنه قال : يتصدق بنصف دينار .

وقال أحمد بن حنبل : يتصدق بدينار أو نصف دينار .

وقال أحمد : ما أحسن حديث عبد الحميد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتصدق بدينار ، أو نصف [ ص: 176 ] دينار ، وقال الطبري : يستحب له أن يتصدق بدينار أو نصف دينار ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وهو قول الشافعي ببغداد .

وقالت فرقة من أهل الحديث : إن وطئ في الدم فعليه دينار ، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار .

قال أبو عمر :

حجة من قال بهذا القول : ما رواه علي بن الحكم البناني ، عن أبي الحسن الجزري ، عن مقسم ، عن ابن عباس مرفوعا قال : إذا أصابها في الدم فدينار ، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار . ( سواء ، وحجة من قال بقول محمد بن الحسن ما رواه خصيف ، عن مقسم ) .

وكذلك رواه ابن جريج ، عن عبد الكريم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ( مرفوعا قال : إذا أصابها في الدم فدينار ، وإذا [ ص: 177 ] أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار ) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا وقع بأهله ، وهي حائض ، فليتصدق بنصف دينار .

وقال أبو داود كذلك قال علي بن بذيمة ، عن مقسم ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( مرسل ، وحجة من قال بقول أحمد بن حنبل ما رواه الحكم بن عتيبة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته ، وهي حائض ، قال : يتصدق بدينار أو نصف دينار .

( قال أبو داود : هكذا الرواية الصحيحة دينار أو نصف دينار ) قال : وربما لم يرفعه شعبة ، عن الحكم .

وقال الأوزاعي : من وطئ امرأته ، وهي حائض ، تصدق بخمسي دينار ، رواه عن زيد بن أبي مالك ، عن عبد الحميد [ ص: 178 ] بن عبد الرحمن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه أمره أن يتصدق بخمسي دينار .

قال أبو عمر :

وحجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة - اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس ، وأن مثله لا تقوم به حجة ، وأن الذمة على البراءة ، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره ، إلا بدليل لا مدفع فيه ، ولا مطعن عليه ، وذلك معدوم في هذه المسألة .

واختلف الفقهاء أيضا في وطء الحائض بعد الطهر ، وقبل الغسل فقال مالك ، وأكثر أهل المدينة : إذا انقطع عنها الدم لم يجز وطؤها حتى تغتسل ، وبه قال الشافعي ، والطبري ، ومحمد بن سلمة .

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها ، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل ، أو يدخل عليها وقت صلاة .

قال أبو عمر :

هذا تحكم لا وجه له ، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحيض في العدة ، وقالوا : لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل ( فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل ) ، وهو الصواب مع موافقة أهل المدينة ، وبالله التوفيق .

[ ص: 179 ] فإن قيل : إن في قول الله عز وجل ولا تقربوهن حتى يطهرن بعد قوله فاعتزلوا النساء في المحيض دليلا على أن المحيض إذا زال وطهرن ؛ جاز إتيانهن من حيث أمرنا باجتنابهن ، فالجواب : أن في قول الله عز وجل : فإذا تطهرن فأتوهن دليلا على بقاء تحريم الوطء بعد الطهر حتى يتطهرن بالماء ; لأن " تطهرن " تفعلن مأخوذ من قول الله وإن كنتم جنبا فاطهروا يريد الاغتسال بالماء ، وقد يقع التحريم بالشيء ، ولا يزول بزواله لعلة أخرى . دليل ذلك قول الله عز وجل في المبتوتة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، وليس تحل له بنكاح الزوج حتى يمسها ويطلقها ، وكذلك لا تحل الحائض للوطء بالطهر حتى تغتسل ، ومثل ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض ، ومعناه حتى تضع ، وتطهر من دم نفاسها أو حيضتها ، وتغتسل منه .

ومن هذا المعنى أيضا : أن الإحرام يمنع من الطيب ، واللباس ، والصيد ، والنساء ، وقد يقع الحل من ذلك كله قبل أن يقع من وطء النساء حتى يكمل الخروج من الحج ، فيحل حينئذ الوطء ، فكذلك الحيض يوجب تحريم الصلاة والصوم وإتيان الزوج ، فإذا انقطع الدم انحل عنها بعض ذلك بإباحة الصوم لها ، وبقي تحريم الصلاة إلى أن تأتي بالطهارة ، فكذلك حكم الجماع أن يبقى تحريمه حتى لا يبقى للحيض حكم - والله أعلم - ، وفي المسألة اعتراضات ، وفيما ذكرنا كفاية ، والحمد لله .




الخدمات العلمية