الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما سمح لهم بخروجه معهم، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلا إخوة أهل جمال وبسطة، وكانوا قد شهروا عند المصريين بعض الشهرة، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى، فكانوا مظنة لأن ترمقهم الأبصار ويشار إليهم بالأصابع، فيصابوا بالعين، ولم يوصهم في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط، فقال حكاية عنه: "وقال" أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر: يا بني محذرا لهم من شر الحسد والعين - لا تدخلوا إذا قدمتم إلى مصر من باب واحد من أبوابها; والواحد على الإطلاق: الذي لا ينقسم، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف وادخلوا من أبواب واحترز من أن [ ص: 157 ] تكون متلاصقة أو متقاربة جدا، فقال: متفرقة أي تفرقا كبيرا، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي ، فإن العين حق، وهي من قدر الله، وقد ورد شرعنا بذلك، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "العين حق " وفي رواية عند أحمد وابن ماجة : " يحضرها الشيطان وحسد ابن آدم " ولمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العين حق، ولو شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا " ولأبي نعيم في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: " إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر " ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وإنما لتدرك الفارس فتدعثره " [ ص: 158 ] ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " قال الإمام الرازي : ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه . وقد تقدم معنى ذلك في رواية أحمد وابن ماجة من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها، لأنها من القدر، لا من باب التحرز من القدر، كما روى مسلم وأحمد وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان "

                                                                                                                                                                                                                                      معناه - والله أعلم: افعل فعل الأقوياء، ولا تفعل فعل العجزة، وذلك بأن تنعم النظر، تمعن في التأمل وتتأنى، حتى تعلم المصادر والموارد، فلا تدع شيئا يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل [ ص: 159 ] عليه ولا يضرك إلا فعلته، ولا تدع أمرا يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت منه جهدك، فإنك إذا فعلت ذلك [وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديرا بأن لا تقول في نفسك: لو أني فعلت كذا]، فإنك لم تترك شيئا، وأما إذا فعلت فعل العجزة، وتركت الجزم فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من "لو" .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما خاف أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أن الحذر يغني من القدر، نفى ذلك مبينا أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه: إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسبابا تضادها ويتأثر عنها المحذور، فقال: وما أغني أي أجزي وأسد وأنوب عنكم من الله أي بعض أمر الملك الأعظم، وعمم النفي فقال: من شيء أي إن أراد بكم، سواء كنتم مفترقين أو مجتمعين، وهذا حكم التقدير، ثم علل ذلك بقوله: إن أي ما الحكم وهو [ ص: 160 ] فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة " إلا الله " أي الذي له الأمر كله، لا يقدر أحد سواه على التقصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره، ولهذا المعنى - وهو أنه لا ينفع أصلا سبب إلا بالله - أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه، وأمر بها أول كل شيء; وروى أبو نعيم في الحلية في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوما فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع. وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر. وكل إفراط [له] مفسد. قال: فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل، فقال: [ ص: 161 ] يا أمير المؤمنين ؟ أخبرنا عن القدر، فقال: [بحر عميق فلا تلجه، فقال: يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر، فقال بيت مظلم فلا تدخله، فقال: يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر، فقال]: سر الله فلا تتكلفه، فقال: يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر، فقال: أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين، لا جبر ولا تفويض، فقال: يا أمير المؤمنين ! إن فلانا يقول بالاستطاعة وهو حاضرك، فقال: علي به! فأقاموه، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال: الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب عنقك! فقال: فما أقول يا أمير المؤمنين ؟ قال: قل: أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها.

                                                                                                                                                                                                                                      وسيأتي إن شاء [الله تعالى] في [سورة الحج] عند إن الله يفعل ما يشاء ما يتصل بهذا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما قصر الأمر كله عليه سبحانه، وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبها على ذلك: عليه أي على الله وحده الذي ليس الحكم [ ص: 162 ] إلا له توكلت أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله وعليه أي وحده فليتوكل المتوكلون أي الثابتون في باب التوكل، فإن ذلك من أعظم الواجبات، من فعله فاز، ومن أغفله خاب،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية