الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما جا آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون .

تفريع على حكاية قصتهم مع إبراهيم ، وقد طوي ما هو معلوم من خروج الملائكة من عند إبراهيم ، والتقدير : ففارقوه وذهبوا إلى لوط فلما جاءوا لوطا .

[ ص: 63 ] وعبر بآل لوط عليه السلام ; لأنهم نزلوا في منزلة بين أهله فجاءوا آله وإن كان المقصود بالخطاب والمجيء هو لوط .

وتولى لوط عليه السلام تلقيهم كما هو شأن كبير المنزل ، ولكنه وجدهم في شكل غير معروف في القبائل التي كانت تمر بهم فألهم إلى أن لهم قصة غريبة ولذلك قال لهم إنكم قوم منكرون ، أي لا تعرف قبيلتكم ، وتقدم قوله تعالى نكرهم في سورة هود .

وقد أجابوه بما يزيل ذلك إذ قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون إضرابا عن قوله إنكم قوم منكرون وإبطالا لما ظنه من كونهم من البشر الذين لم يعرف قبيلتهم فلا يأمنهم أن يعاملوه بما يضره .

وعبر عن العذاب بـ ما كانوا فيه يمترون إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التعذيب ، أي بالأمر الذي كان قومك يشكون في حلوله بهم وهو العذاب ، فعلم أنهم ملائكة .

والمراد بالحق الخبر الحق ، ولذلك ذيل بجملة وإنا لصادقون .

وقوله قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون

حكاية لخطاب الملائكة لوطا عليه السلام لمعنى عباراتهم محولة إلى نظم عربي يفيد معنى كلامهم في نظم عربي بليغ ، فبنا أن نبين خصائص هذا النظم العربي :

فإعادة فعل أتيناك بعد واو العطف مع أن فعل أتيناك مرادف لفعل جئناك دون أن يقول : وبالحق ، يحتمل أن يكون للتأكيد اللفظي بالمرادف ، والتعبير في أحد الفعلين بمادة المجيء وفي الفعل الآخر بمادة الإتيان لمجرد التفنن لدفع تكرار الفعل الواحد ، كقوله تعالى في سورة الفرقان ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا . وعليه تكون الباء في قوله بما كانوا فيه يمترون وقوله بالحق للملابسة .

[ ص: 64 ] ويحتمل أن تكون لذكر الفعل الثاني وهو وأتيناك خصوصية لا تفي بها واو العطف ، وهي مراعاة اختلاف المجرورين بالباء في مناسبة كل منها للفعل الذي تعلق هو به ، فلما كان المتعلق بفعل جئناك أمرا حسيا وهو العذاب الذي كانوا فيه يمترون ، وكان ما يصح أن يسند إليه المجيء بمعنى كالحقيقي ، إذ هو مجيء مجازي مشهور مساو للحقيقي ، أوثر فعل جئناك ليسند إلى ضمير المخاطبين ويعلق به ما كانوا فيه يمترون . وتكون الباء المتعلقة به للتعددية ; لأنهم أجاءوا العذاب ، قوله تعالى بما كانوا فيه يمترون موقع مفعول به ، كما تقول ذهبت به بمعنى أذهبته وإن كنت لم تذهب معه ، ألا ترى إلى قوله تعالى فإما نذهبن بك أي نذهبك من الدنيا ، أي نميتك ، فهذه الباء للتعدية وهي بمنزلة همزة التعدية .

وأما متعلق فعل أتيناك وهو ( بالحق ) فهو أمر معنوي لا يقع منه الإتيان فلا يتعلق الإتيان بفعل الإتيان فغيرت مادة المجيء إلى مادة الإتيان تنبيها على إرادة معنى غير المراد بالفعل السابق ، أعني المجيء المجازي ، فإن هذا الإتيان مسند إلى الملائكة بمعناه الحقيقي ، وكانوا في إتيانهم ملابسين للحق ، أي الصدق ، وليس الصدق مسندا إليه الإتيان ، فالباء في قوله تعالى بالحق للملابسة لا للتعددية .

والقطع بكسر القاف وسكون الطاء الجزء الأخير من الليل . وتقدم عند قوله تعالى قطعا من الليل مظلما في سورة يونس .

وأمروه أن يجعل أهله قدامه ويكون من خلفهم ، فهو يتبع أدبارهم ، أي ظهورهم ليكون كالحائل بينهم وبين العذاب الذي يحل بقومه بعقب خروجه تنويها ببركة الرسول - عليه السلام - ولأنهم أمروه أن لا يلتفت أحد من أهله إلى ديار قومهم ; لأن العذاب يكون قد نزل بديارهم ، فبكونه وراء أهله يخافون الالتفات ; لأنه يراقبهم ، وقد مضى تفصيل ذلك في سورة هود ، وأن امرأته التفتت فأصابها العذاب .

[ ص: 65 ] و حيث تؤمرون أي حيث تؤمرون بالمضي ، ولم يبينوا له المكان الذي يقصده إلا وقت الخروج ، وهو مدينة عمورية ، كما تقدم في سورة هود .

التالي السابق


الخدمات العلمية