الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذا من النوع الثاني من الأحكام التي ذكرها في هذه السورة وهو حكم الأنكحة وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : الإقساط العدل ، يقال أقسط الرجل إذا عدل ، قال الله تعالى : ( وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) [ الحجرات : 9 ] والقسط العدل والنصفة ، قال تعالى : ( كونوا قوامين بالقسط ) [ النساء : 135 ] قال الزجاج : وأصل قسط وأقسط جميعا من القسط وهو النصيب ، فإذا قالوا : قسط بمعنى جار أرادوا أنه ظلم صاحبه في قسطه الذي يصيبه ، ألا ترى أنهم قالوا : قاسطته إذا غلبته على قسطه ، فبني قسط على بناء ظلم وجار وغلب ، وإذا قالوا أقسط فالمراد أنه صار ذا قسط عدل ، فبني على بناء أنصف إذا أتى بالنصف والعدل في قوله وفعله وقسمه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أن قوله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا ) شرط ، وقوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] جزاء ، ولا بد من بيان أنه كيف يتعلق هذا الجزاء بهذا الشرط ، وللمفسرين فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : روي عن عروة أنه قال : قلت لعائشة : ما معنى قول الله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) فقالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ، إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها ، فقال تعالى : وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ، قالت عائشة رضي الله عنها : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله تعالى : ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ) [ النساء : 127 ] قالت : وقوله تعالى : ( وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ) [ النساء : 127 ] المراد منه هذه الآية وهي قوله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 140 ] الوجه الثاني : في تأويل الآية : أنه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير ، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى ، فتحرجوا من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر ، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها ، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء ، فقللوا عدد المنكوحات ؛ لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث في التأويل : أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا ، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع في التأويل : ما روي عن عكرمة أنه قال : كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام ، فإذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا ، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف ، فإن خفتم في الأربع أيضا فواحدة ، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع ، والناقص وهو الواحدة ، ونبه بذلك على ما بينهما ، فكأنه تعالى قال : فإن خفتم من الأربع فثلاث ، فإن خفتم فاثنتان ، فإن خفتم فواحدة ، وهذا القول أقرب ، فكأنه تعالى خوف من الإكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة إلى الإنفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية