الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ( 250 فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين

                                                          * * * [ ص: 905 ] اجتاز المؤمنون الصابرون النهر ، وجمعوا عزائمهم في عزيمة واحدة ، وقدروا النصر مع قلتهم وكثرة عدوهم ، لأن الإيمان بالحق وحده عدة هي أقوى عدد الجهاد ، وبهذه النفوس المؤمنة المتوثبة المفوضة أمورها لرب العالمين ، تقدموا للقاء الأعداء ، ولم يغرهم بالله الغرور ولم يفرضوا أن قوة البدن والسلاح والشعور بالحق وحدها كافية للنصر بل لا بد من تأييد الله ، ولذا قال سبحانه في وصفهم في ميدان القتال :

                                                          ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين أي أنهم خرجوا إلى الأرض الفضاء المتسعة التي تتلاقى فيها القوى المناضلة ، فـ " برزوا " معناها خرجوا إلى البراز ، أي الفضاء المتسع المترامي الأطراف ، وكان بروزهم وظهورهم لقوي جبار غالب ، ومعه جند مدرب تعود الانتصار في الماضي ، وأذاق بني إسرائيل من الذل أكؤسا ، ذلك هو جالوت وجنوده .

                                                          وذكره بالاسم ومعه جنوده للإشعار بأن المؤمنين لاقوا جماعة موحدة منظمة ، لها فوق كثرة العدد والعدد قوة النظام وتوحيد القيادة وقوة الانتصار في الماضي والغلب عليهم . ولكن التعبير يشعر مع ذلك بأمر آخر قد يكون من أسباب الضعف مع هذه القوة وهو أنهم جند لشخص واحد ، يعملون لغايته بمصلحته وسلطانه ، بل شهواته ورغباته ، فهم لا يعملون لأنفسهم وجماعتهم ، بل يعملون لملكهم ، وكأنهم مع دربتهم وقوتهم وغلبهم مسخرون لإرادة شخص وهواه ، وذلك من أسباب ضعف الإرادات ، وعدم الصبر عند الشدائد ، وهكذا حكم الواحد المستبد ، يحمل في داخله دائما عوامل ضعفه مهما يكن فيه من توحيد وتنظيم للقوى وجمع للقيادة ، وذلك يكون إذا كان حكم الفرد صالحا ، ولم يكن فسادا غاشما وطغيانا آثما .

                                                          عندما التقى المؤمنون الصابرون من بني إسرائيل بعدوهم ، هالهم أمره ، وهالهم أمر قائده ، ولكنهم كانوا مستولين على قلوبهم ، مؤمنين بالنصر أن أخلصوا [ ص: 906 ] في أمرهم ، وشروا أنفسهم لربهم ; ولذلك اتجهوا إليه بعد أن أخذوا الأهبة ، فدعوه ضارعين بثلاث عبارات مفوضة تفيد إدراك أسباب النصر :

                                                          أما الدعاء الأول فهو : قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا يقال أفرغ الإناء : صب ما فيه من ماء ، وأفرغ الدلو على نفسه : صب ما فيه من ماء على نفسه ، فمعنى أفرغ علينا : أفض علينا صبرا يعمنا في ظاهر جمعنا ، وفي خاصة نفوسنا . فالتعبير بـ " أفرغ علينا صبرا " فيه استعارة تمثيلية شبه فيه حالهم والله سبحانه وتعالى يفيض عليهم بالصبر يظهر في جماعتهم مجتمعة وفي الأفراد منفردين بحال الماء يفرغ على الجسم فيعبه كله ، يعم ظاهره ويتسرب إلى باطنه ، فيلقي في القلوب بردا وسلاما ، وهدوءا واطمئنانا .

                                                          وصدروا الدعاء بالنداء " ربنا " أي خالقنا ومنشئنا ومربينا ومميتنا ، وفي ذلك إشعار بأنهم دعوا مجيبا ، وضرعوا إلى قادر غالب ، وإلى منشئ موجد ، فهو قادر على أن يأويهم بالصبر ، ويغنيهم به عن نقص العدد .

                                                          وابتدءوا بالدعاء بالصبر ; لأن الصبر هو عدة القتال الأولى ، وهو ذخيرة المؤمنين وبه ضبط النفس فلا تفزع ، وبه يجتمع قلب الشجاع فلا يجزع . والانتصار في القتال بصبر ساعة ، والصبر عند اللقاء الأول هو الذي تتبدد به قوى العدو مهما تكاثرت ; ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " .

                                                          والدعاء الثاني الذي ضرعوا إلى ربهم فيه قولهم : ( وثبت أقدامنا ) ، وهذا كناية عن أن يمنحهم سبحانه وتعالى الثبات في الزحف وعدم الفرار في النزال ، فمعنى : وثبت أقدامنا أي ثبتنا ، ومكنا من عدونا ، ولا تمكن عدونا منا ، ولا تجعل للفرار سبيلا إلى قلوبنا ، فالتعبير بقوله : وثبت أقدامنا تعبير بالجزء وإرادة الكل ; لأن الأقدام هي التي يكون بها الفرار ، فتثبيتها إبعاد للفرار بثبات أداته وعدم تحركها إلا إلى الأمام ، وأن الثبات مظهر الصبر ، وذريعة النصر بل مظهر القوة ، [ ص: 907 ] وعنده تتحطم قوى العدو ، وتتفرق كلمته إذا لم يكن محاربا في سبيل حق ، بل كان يقيم الظلم ويؤيد الباطل .

                                                          والدعاء الثالث ، وهو قولهم : وانصرنا على القوم الكافرين وإن إجابة هذا الدعاء هو تحقيق لثمرة الصبر والثبات ، وكان الدعاء بتحقيقه للإشارة إلى أن الأمور كلها بيد الله ، وإن أولئك المؤمنين الصابرين الثابتين كانوا يأخذون بالأسباب ، ثم يفوضون الأمور إلى الله مسبب الأسباب معتقدين أنه مهما يتحقق السبب ولا تكون المعونة الإلهية ، والتوفيق الرباني ، والتأييد من القوي الجبار - فلن يكون الانتصار ، وأن الجيش القوي مهما يكن عنده من صبر وثبات يجب أن يؤمن بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم القوي الغالب على كل شيء . وقد رأينا في العصور الحديثة قادة عظاما يأخذون بالأسباب ثم ينهزمون ، مع أن تحت سلطانهم جنودا مدربين طائعين صابرين ولكنهم لم يقولوا : المستقبل بيد الله ، بل قالوا : المستقبل بأيدينا ، فكف الله أيديهم عن الناس ، وكانوا عبرة المعتبرين .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية