الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون . [ ص: 359 ]

                                                                                                                                                                                                                                      فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إلى آلهتهم ، " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " ; أي : قد فعل ما لم يكن له فعله ، فقال الذي سمع إبراهيم يقول : لأكيدن أصنامكم : " سمعنا فتى يذكرهم " قال الفراء : أي : يعيبهم ، تقول للرجل : لئن ذكرتني لتندمن ، تريد : بسوء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فأتوا به على أعين الناس " ; أي : بمرأى منهم ، لا تأتوا به خفية . قال أبو عبيدة : تقول العرب إذا أظهر الأمر وشهر : كان ذلك على أعين الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " لعلهم يشهدون " فيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : يشهدون أنه فعل ذلك ، قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : يشهدون عقابه وما يصنع به ، قاله محمد بن إسحاق .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون : فانطلقوا به إلى نمرود ، فقال له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ قال : بل فعله كبيرهم هذا ، غضب أن تعبد معه الصغار فكسرها ، " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " من فعله بهم ؟ وهذا إلزام للحجة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النطق .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف العلماء في وجه هذا القول من إبراهيم عليه السلام على قولين :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه وإن كان في صورة الكذب ، إلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له ، لا يصلح أن يكون إلها ، ومثله قول الملكين لداود إن هذا أخي ، ولم يكن أخاه ، له تسع وتسعون نعجة [ ص : 23 ] ، ولم يكن له شيء ، [ ص: 360 ] فجرى هذا مجرى التنبيه لداود على ما فعل ، وأنه هو المراد بالفعل والمثل المضروب ، ومثل هذا لا تسميه العرب كذبا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه من معاريض الكلام ، فروي عن الكسائي أنه [ كان ] يقف عند قوله تعالى : " بل فعله " ، ويقول : معناه : فعله من فعله ، ثم يبتدئ : " كبيرهم هذا " . قال الفراء : وقرأ بعضهم : ( بل فعله ) بتشديد اللام ، يريد : فلعله كبيرهم هذا . وقال ابن قتيبة : هذا من المعاريض ، ومعناه : إن كانوا ينطقون ، فقد فعله كبيرهم ، وكذلك قوله : إني سقيم [ الصافات : 89 ] ; أي : سأسقم ، ومثله : إنك ميت [ الزمر : 30 ] ; أي : ستموت ، وقوله : لا تؤاخذني بما نسيت [ الكهف : 74 ] ، قال ابن عباس : لم ينس ، ولكنه من معاريض الكلام ، والمعنى : لا تؤاخذني بنسياني ، ومن هذا قصة الخصمين إذ تسوروا المحراب [ ص : 21 ] ، ومثله وإنا أو إياكم لعلى هدى [ سبأ : 24 ] ، والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيرا ، فتبلغ إرادتها بوجه هو ألطف من الكشف ، وأحسن من التصريح . وروي أن قوما من الأعراب خرجوا يمتارون ، فلما صدروا ، خالف رجل في بعض الليل إلى عكم صاحبه ، فأخذ منه برا وجعله في عكمه ، فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان ، رأى عكمه يشول وعكم صاحبه يثقل ، فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                      عكم تغشى بعض أعكام القوم لم أر عكما سارقا قبل اليوم



                                                                                                                                                                                                                                      فخون صاحبه بوجه هو ألطف من التصريح . قال ابن الأنباري : كلام إبراهيم كان صدقا عند البحث ، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كذب إبراهيم ثلاث كذبات " : [ ص: 361 ] قال قولا يشبه الكذب في الظاهر ، وليس بكذب . قال المصنف : وقد ذهب جماعة من العلماء إلى هذا الوجه ، وأنه من المعاريض ، والمعاريض لا تذم خصوصا إذا احتيج إليها . روى عمران بن حصين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما يسرني أن [ ص: 362 ] لي بما أعلم من معاريض القول مثل أهلي ومالي . وقال النخعي : لهم كلام يتكلمون به إذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم . وقال ابن سيرين : الكلام أوسع من أن يكذب ظريف . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجوز : " إن الجنة لا تدخلها العجائز " ، أراد : قوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاء [ الواقعة : 35 ] . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يمازح بلالا ، فيقول : " ما أخت خالك منك " ؟ وقال لامرأة : " من زوجك " ؟ فسمته له ، فقال : " الذي في عينيه بياض " ؟ ، وقال لرجل : " إنا حاملوك على ولد ناقة " ، وقال له العباس : ما ترجو لأبي طالب ؟ فقال : " كل خير أرجوه من ربي " . وكان أبو بكر حين خرج من الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد : من هذا بين يديك ؟ يقول : هاد يهديني . وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته مع جارية له ، فقالت له : وعلى فراشي أيضا ؟ فجحد ، فقالت له : فاقرأ القرآن ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                                      وفينا رسول الله يتلو كتابه     إذا انشق مشهور من الصبح طالع


                                                                                                                                                                                                                                      يبيت يجافي جنبه عن فراشه     إذا استثقلت بالكافرين المضاجع

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 363 ]

                                                                                                                                                                                                                                      فقالت : آمنت بالله ، وكذبت بصري ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فضحك وأعجبه ما صنع
                                                                                                                                                                                                                                      . وعرض شريح ناقة ليبيعها ، فقال له المشتري : كيف لبنها ؟ قال : احلب في أي إناء شئت . قال : كيف الوطاء ؟ قال : افرش ونم . قال : كيف نجاؤها ؟ قال : إذا رأيتها في الإبل عرفت مكانها ، علق سوطك وسر . قال : كيف قونها ؟ قال : احمل على الحائط ما شئت ; [ فاستصراها ] فلم ير شيئا مما وصف ، فرجع إليه ، فقال : لم أر فيها شيئا مما وصفتها به . قال : ما كذبتك . قال : أقلني . قال : نعم . وخرج شريح من عند زياد وهو مريض ، فقيل له : كيف وجدت الأمير ؟ قال : تركته يأمر وينهى ، فقيل له : ما معنى يأمر وينهى ؟ قال : يأمر بالوصية وينهى عن النوح . وأخذ محمد بن يوسف حجرا المدري ، فقال : العن عليا . فقال : إن الأمير أمرني أن ألعن عليا محمد بن يوسف ، فالعنوه ، لعنه الله . وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن علي ، فقال : لعن الله من لعن الله ولعن علي ، ثم قال : إن [ هذا ] الأمير قد أبى إلا أن ألعن عليا ، فالعنوه ، لعنه الله . وامتحنت الخوارج رجلا من الشيعة ، فجعل يقول : أنا من علي، ومن عثمان بريء . وخطب رجل امرأة وتحته أخرى ، فقالوا : لا نزوجك حتى تطلق امرأتك ، فقال : اشهدوا أني قد طلقت ثلاثا ، فزوجوه ، فأقام مع المرأة الأولى ، فادعوا أنه قد طلق ، فقال : أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلقتها ، ثم فلانة فطلقتها ، ثم فلانة فطلقتها ؟ قالوا : بلى ، قال : فقد طلقت ثلاثا . وحكي أن رجلا عثر به الطائف ليلة ، فقال له : من أنت ؟ فقال :


                                                                                                                                                                                                                                      أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره     وإن نزلت يوما فسوف تعود
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 364 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره     فمنهم قيام حولها وقعود



                                                                                                                                                                                                                                      فظن الطائف أنه ابن بعض الأشراف بالبصرة ، فلما أصبح سأل عنه ، فإذا هو ابن باقلائي . ومثل هذا كثير .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية