الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولو أن كلامه يسير الجبال لسيرها، ولو أن قرآنا يقطع الأرض أجزاء لقطعها، فقال تعالى:

                                                          ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا .

                                                          جاء في السيرة النبوية أن نفرا من كفار قريش ذهبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحدونه فيهم أبو جهل، وعبد الله بن أمية، فقال عبد الله: إن سرك أن نتبعك سير لنا جبال مكة بالقرآن فادعها عنا حتى نتفسح فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا؛ حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح لنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا ونواتجنا، ثم نرجع من يومنا، فلقد كان سليمان سخرت له الريح كما زعمت، فلست أهون على ربك من سليمان بن داود، وأحي لنا قصي بن كلاب جدك، أو من شئت أنت من موتانا، فعيسى كان يحيي الموتى، ولست أهون عند الله من عيسى ابن مريم.

                                                          ولقد حكى القرآن الكريم فيما تكون من قبل عنهم مثل ذلك فقد قالوا:

                                                          لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا إلى آخر ما تلونا.

                                                          وقد نزلت هذه الآية الكريمة: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا ولا نقول: إن أقوالهم التي رواها القرآن الكريم عنهم أم التي روتها كتب السنة هي السبب في نزول هذه الآية كما ذكر في أسباب النزول، أم أن الآية الكريمة جاءت لتحقيق معنى في القرآن لا يوجد في غيره من الأمور الخارقة للعادة، فالآية الكريمة تبين أن القرآن أعلى من [ ص: 3952 ] كل ما ذكروه وطلبوه من آيات لولا أنه من طبيعة غير طبيعتها، ومنهاج غير منهاجها، وهو أبقى وأخلد، فما يطلبون هو حوادث تنقضي بانتهاء وقتها، أما القرآن فباق خالد إلى يوم الدين، يتحدى الأجيال كلها شامخا عاليا أن تأتي بمثله، كما تلونا من قبل: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا

                                                          يقول تعالى: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى أي لو ثبت أن قرآنا يقرأ ويتلى سيرت به الجبال، فانتقلت من أماكنها، وانفسحت عن شعابها لتتسع رقعة للزرع والغراس، أو قطعت الأرض فتشققت - لتكون منها بحار تجري فيها المياه، أو يكلم به الموتى بمعنى أنه يحييها، ثم يكلمها، وجواب الشرط محذوف يفهم من سياق القول، وهو لكان هذا القرآن، ولكن الكلام لا يسير الجبال، ومع ذلك فهو أقوى تأثيرا، وكان يمكن أن يؤثر في قلوب المشركين بأشد من ذلك، لولا أن عنادهم حجر قلوبهم، وكما قال سبحانه: لو أنـزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ولكن القلوب التي سكنها الشرك والكفر، وهي كالحجارة أو أشد قسوة، بل لله الأمر جميعا، الإضراب للانتقال بين هذا إلى بيان أن اختيار المعجزات من أمر الله، وله وحده كل الأمر. ويقول تعالى: أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا فسر كثير من المفسرين أن (ييأس) هنا بمعنى لم يعلم، وساقوا شواهد من العربية للدلالة على ذلك، وفسرها الزمخشري بذلك، وبجواز أن تكون (ييأس) بمعنى اليأس، وهو اليأس من إيمان المشركين، ويزكي هذا قوله تعالى بعدها: أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولنترك الكلمة له فهو يقول رضي الله تعالى عنه: " ومعنى أفلم ييأس أفلم يعلم قيل هي لغة قوم من النخع، وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمينه معناه؛ لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لن يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمن [ ص: 3953 ] ذلك، قال سحيم بن وئيل الرباحي:


                                                          أقول لهم بالشعب، إذ ييسرونني ألم ييئسوا أني ابن فارس زهدم



                                                          إلى أن قال: يجوز أن يتعلق أن لو يشاء الله بـ(آمنوا) على معنى أولم يتعظ من إيمان هؤلاء الكفرة لو يشاء الله لهدى الناس جميعا

                                                          ومعنى الكلام الأخير، أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكافرين، ويعلموا أن لو يشاء الله لآمن الناس جميعا.

                                                          وقوله تعالى: أفلم ييأس الفاء للإفصاح عن شرط مقدر مؤداه أن تكون المعجزة في هذا المقام من الإعجاز، يقول الذين كفروا غير معتدين بها، فلم ييأس الذين آمنوا من إيمانهم، والاستفهام لإنكار الوقوع أي للمعنى، ونفي النفي إثبات، والمعنى: ييأس الذين آمنوا من أن يهتدوا، ويعلمون أن لو شاء الله لهدى الناس.

                                                          والمعنى لو شاء الله إيمان الناس جميعا لآمنوا، ولكنه سبحانه وتعالى تركهم ليطهر المؤمن عن نيته، ويعلم الكافر عن ضلاله، وتركه الحق، ويكون الجزاء عقابا أو ثوابا.

                                                          وكان على الكافرين أن يرجعوا عن غيهم، ويسيروا في طريق الرشاد، فالقوارع تنزل بهم قارعة بعد قارعة، أو تحل قريبا من دارهم؛ ولذا قال تعالى: ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم القارعة: الكارثة الداهية أو الشديدة التي تقرع حسا قرعا، تنبههم إلى ما هم فيه من الضلال، فمن لا ينهه الدليل والبرهان، ولا يجديه البرهان لا يتنبه بالعقل، بل لا بد من الشدة تقرع حسه، وكان الإقدام قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إن لم يقتنعوا وعاندوا ينزل بهم ما يزيل ديارا، أو ريح صرصر، أو غرق، وغير ذلك مما يبيد خضراءهم، وتبقي من بعدهم من اتبع النبيين، أما محمد، فإن رسالته باقية خالدة، لا يؤثر في اتجاهها كفر من كفر، ولكن يغالب الكفر بالإيمان، ليكون من بعدهم من يعبد الله تعالى، ويدعو إلى ربه؛ ولذلك كانت القوارع التي تقرع حسهم، ليست [ ص: 3954 ] إبادة، ولكنها مغالبة ودفع الفساد، فالقارعة التي تصيب الكافرين هزيمة منكرة، تنزل بهم كالتي نزلت بهم ببدر، والخندق، وكأحد فقد رجعوا فيها إلى حنين من الغنيمة بالآيات، وإن كان المسلمون توجهوا بهم قرح، وكان تعليما، وتوجيها، كما قال تعالى: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله لكن قرحهم كان هزيمة، وقرح المؤمنين لم يكن انهزاما ولا فرارا.

                                                          فالقارعة هي الهزيمة لا تزال تصيبهم مرة بعد أخرى، أو تحل قريبا من دارهم، في السرايا التي يبثها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يبقيها النبي - صلى الله عليه وسلم - حول مكة تدعو إلى الله، وتنذرهم، حتى كان صلح الحديبية، وبه أمنوا على أنفسهم، وأخذ الناس يدخلون في دين الله في مكة وغيرها.

                                                          وتلك القوارع، والسرايا التي تحل قريبا من دارهم، حتى يأتي وعد الله بالنصر الحاسم، وأن تكون الكلمة للإسلام في البلاد العربية وما وراءها، وهذا معنى قوله تعالى: حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد

                                                          وإن المشركين كانوا يستهزئون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في إبان نصرته، كانوا في إبان مقامه في مكة، وهم يحسبون أنه في قبضة أيديهم والله ناصره، وخاذلهم، ألم ترهم يقولون بعد حديث هرقل لهم في سؤاله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ".

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية