الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 74 ] وقال فصل ولجماعة من الفضلاء كلام في قوله تعالى { يوم يفر المرء من أخيه } { وأمه وأبيه } لم ابتدأ بالأخ ومن عادة العرب أن يبدأ بالأهم ؟

                التالي السابق


                فلما سئلت عن هذا قلت : إن الابتداء يكون في كل مقام بما يناسبه فتارة يقتضي الابتداء بالأعلى وتارة بالأدنى وهنا المناسبة تقتضي الابتداء بالأدنى لأن المقصود بيان فراره عن أقاربه مفصلا شيئا بعد شيء فلو ذكر الأقرب أولا لم يكن في ذكر الأبعد فائدة طائلة فإنه يعلم أنه إذا فر من الأقرب فر من الأبعد ولما حصل للمستمع استشعار الشدة مفصلة فابتدئ بنفي الأبعد منتقلا منه إلى الأقرب فقيل أولا . { يفر المرء من أخيه } فعلم أن ثم شدة توجب ذلك . وقد يجوز أن يفر من غيره ويجوز أن لا يفر . فقيل { وأمه وأبيه } فعلم أن الشدة أكبر من ذلك بحيث توجب الفرار من الأبوين .

                ثم قيل { وصاحبته وبنيه } فعلم أنها طامة بحيث توجب الفرار [ ص: 75 ] مما لا يفر منهم إلا في غاية الشدة وهي الزوجة والبنون ولفظ صاحبته أحسن من زوجته .

                قلت : فهذا في الخبر ونظيره في الأمر قوله : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وقوله : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } فإن الواجبات نوعان على الترتيب .

                فيقدم فيه الأعلى فالأعلى كما في كفارة الظهار والقتل واليمين وعلى التخيير فابتدأ فيها بأخفها ليبين أنه كان مجزيا لا نقص فيه وإن ذكر الأعلى بعده للترغيب فيه لا للإيجاب فانتقال القلب من العمل الأدنى إلى الأعلى أولى من أن يؤمر بالأعلى ثم يذكر له الأدنى فيزدريه القلب .

                ولهذا لما ذكر في جزاء الصيد الأعلى ابتداء كان لنا في ترتيبه روايتان وإذا نصرنا المشهور قلنا قدم فيه الأعلى لأن الأدنى بقدرته في قوله : { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } .

                ولهذا لما ابتدأ بالأثقل في حدود المحاربين لم يكن عندنا على التخيير ولا على الترتيب ; بل بحسب الجرائم وليس في لفظ الآية ما يقتضي التخيير كما يتوهمه طائفة من الناس فإنه لم يقل الواجب أو الجزاء هذا [ ص: 76 ] أو هذا أو هذا كما قال : فكفارته هذا أو هذا أو هذا وكما قال : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وإنما قال : إنما جزاؤهم هذا أو هذا أو هذا فالكلام فيه نفي وإثبات : تقديره : ما جزاؤهم إلا أحد الثلاثة كما قال في آية الصدقات : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } أي ما هي إلا لهؤلاء .

                وقد تقرر أن مثل هذا الخطاب يثبت للمذكور ما نفاه عن غيره فلما نفى الجواز لغير الأصناف أثبت الجواز لا الوجوب ولا الاستحقاق كما فهمه من اعتقد وجوب الاستيعاب من ظاهر الخطاب وهنا نفى أن يكون ما سوى أحد هذه جزاء فأثبت أن يكون جزاء المحارب أحد هذه العقوبات . والمحاربون جملة ليسوا واحدا فظهر الفرق بين هذه . الآية وبين الآيتين من وجوه : " أحدها " أن المحاربين ذكروا باسم الجمع ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي توزيع الأفراد على الأفراد فلو قيل : جزاء المعتدين إما القتل وإما القطع وإما الجلد وإما الصلب وإما الحبس : لم يقتض هذا التخيير في كل معتد بين هذه العقوبات بل توزيع العقوبات على أنواعهم كذلك إذا قيل : جزاء المحاربين كذا أو كذا أو كذا أو كذا بخلاف قوله : { فكفارته } وقوله : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة

                } [ ص: 77 ] " الثاني " أن المقصود نفي جواز ما سوى [ ذلك ] وإثبات ضده وهي جواز المذكور في الجملة وذلك أعم من أن يكون مخيرا أو معينا بخلاف ما إذا لم يكن المقصود إلا مجرد الإثبات ; فإن إثباته بصيغة التخيير يدل عليه . وهذا معروف في مواد الإثبات المحض أو مواد الحصر كما قال صلى الله عليه وسلم للخصم المدعي : { شاهداك أو يمينه } وفي لفظ : { ليس لك منه إلا ذلك } فحصر طريق الحق وليس الغرض التخيير .

                وكذلك يقال : الواجب في القتل القصاص أو الدية ولا تصح الصلاة إلا بوضوء أو تيمم ولا بد يوم الجمعة من الظهر أو الجمعة ولا يترك في دار الإسلام إلا مسلم أو معاهد وسبب ذلك أنه إذا كان بعض المقصود الذي دل عليه اللفظ نفس ما سوى الأمور المذكورة كان مدلوله إثباتا يقتضي النفي وهو الوجود المشترك من هذه الأمور والقدر المشترك بينها أعم من أن يكون معينا أو مخيرا وأما إذا أثبتت ابتداء فلو لم تكن مخيرة بل معينة ولم يدل اللفظ عليه كان تلبيسا .

                " الوجه الثالث " وهو لطيف أن يقال : مفهوم ( أو إثبات التقسيم المطلق كما قلنا : إن الواو مفهومها التشريك المطلق بين المعطوف والمعطوف عليه فأما الترتيب : فلا ينفيه ولا يثبته ; إذ الدال [ ص: 78 ] على مجرد المشترك لا يدل على المميز فكذلك ( أو هي للتقسيم المطلق وهو ثبوت أحد الأمرين مطلقا وذلك أعم من أن يثبت على سبيل التخيير بينه وبين الآخر . أو على سبيل الترتيب أو على سبيل التوزيع وهو ثبوت هذا في حال وهذا في حال كما أنهم قالوا : هي في الطلب يراد بها الإباحة تارة كقولهم : تعلم النحو أو الفقه والتخيير أخرى . كقولهم : كل السمك أو اللبن وأرادوا بالإباحة جواز الجمع . وهي في نفسها تثبت القدر المشترك وهو أحد الاثنين . إما مع إباحة الآخر أو حظره فلا تدل عليه بنفسها بل من جهة المادة الخاصة ; ولهذا جمعنا بين القتل والصلب وبينه وبين القطع على رواية فإن ( أو لا تنفي ذلك فإذا كان حرف أو يدل على مجرد إثبات أحد المذكورات فهنا مسلكان : " أحدهما " أن يقال : إذا كانت في مادة الإيجاب أفادت التخيير وإذا كانت في مادة الجواز أفادت القدر المشترك كما هو مشهور عن النحاة المتكلمين في معاني الحروف أنهم يقولون : يراد بها تارة الإذن في أحد الشيئين مع حظر الآخر وتارة الإذن في أحدهما وإن ضم إليه الآخر كما ذكروه من الأمثلة .

                وحينئذ فهذه الآية في مادة الجواز لأن المنفي هو الجواز . فيكون [ ص: 79 ] المثبت هو الجواز كما ذكرناه في آية الصدقات بخلاف آية الكفارة ; فإنها في مادة الوجوب .

                " المسلك الثاني " أن يقال : لا فرق بين المادتين الجواز والوجوب ; بل وفي الوجوب قد يباح الجمع . كما لو كفر بالجميع مع الغنى ; لكن يقال : دلالتها في الجميع على التفريق المطلق ضد دلالة ( الواو .

                ثم إن لم يدل دليل على ترتيب ولا تعيين : جاز فعل كل واحد من الخصال لعدم ما يدل على التعيين والترتيب لا للدليل المنافي لذلك كما في قوله : { فتحرير رقبة } فإن الرقبة المعينة يجزي عتقها ; كثبوت القدر المشترك فيها وعدم ما يوجب المعين لا لدليل دل على نفس المعين ; وإن دل دليل على التعيين والترتيب : قلنا به كما نقول بتقييد المطلق وليس تقييد المطلق رفعا لظاهر اللفظ بل ضم حكم آخر إليه وهذا مسلك حسن في هذا الموضع ونظائره ; فإنه يجب الفرق بين ما يثبته اللفظ وبين ما ينفيه فإذا قلنا في المحاربين بالتعيين لدليل خبري أو قياسي كان كالقول بالترتيب في الوضوء والإيمان في الرقبة ونحوهما .




                الخدمات العلمية