الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ذكر دانيال عليه السلام]

لما تمت عمارة بيت المقدس سأل أرميا ربه عز وجل أن يقبضه إليه ، فمات ، وأنقذ الله بني إسرائيل من أرض بابل على يدي دانيال .

وكان دانيال ممن سباه بخت نصر في تخريب بيت المقدس ، فرمى به في جب مغلولا في فلاة من الأرض ، وألقى معه سبعين ، وأطبق عليه الجب ، فبقي تسعة أيام .

فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: انطلق فاستخرج دانيال من الجب ، فقال: يا رب من يدلني عليه؟ قال: يدلك عليه مركبك ، فركب أتانا له ، فخرج يطوف ، فقال: يا صاحب الجب ، فأجابه دانيال ، فقال: قد أسمعت فما تريد؟ قال: أنا رسول الله إليك لأستخرجك من هذا الموضع ، فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ، والحمد لله الذي لا يكل من توكل عليه إلى غيره ، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا ، وبالإساءة غفرانا . ثم استخرجه والسبعان يمشيان معه ، فعزم عليهما دانيال أن يرجعا إلى الغيضة .

وقد روينا أن بخت نصر اتخذ صنما وأمر بالسجود له فلم يسجد دانيال وأصحابه ، فأمر بهم فألقوا في أتون فلم يحترقوا .

أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار ، قال: أخبرنا أبي ، قال: أخبرنا ابن دوما ، قال: أخبرنا مخلد بن جعفر ، قال: أخبرنا الحسن بن علي القطان ، قال: أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار ، قال: حدثنا أبو حذيفة القرشي ، قال: حدثنا سعيد بن [ ص: 418 ] بشر ، عن قتادة ، عن كعب ، قال: كان سبب استنقاذ بني إسرائيل من أرض بابل أن بخت نصر لما صدر من بيت المقدس بالأسارى ، وفيهم دانيال وعزير ، فاتخذ بني إسرائيل خولا زمانا طويلا ، وإنه رأى رؤيا فزع منها ، فدعا كهنته وسحرته فأخبرهم بما أصابه من الكرب في رؤياه ، وسألهم أن يعبروها ، فقالوا: قصها علينا ، قال: قد أنسيتها ، فأخبروني بتأويلها ، قالوا: لا نقدر حتى تقصها ، فغضب وقال: قد أجلتكم ثلاثة أيام فإن أتيتموني بتأويلها وإلا قتلتكم .

وشاع ذلك في الناس ، فبلغ دانيال وهو محبوس ، فقال لصاحب السجن: هل لك أن تذكرني للملك ، فإن عندي علم رؤياه ، وإني أرجو أن تنال بذلك عنده منزلة ، فقال له: إني أخاف عليك سطوة الملك ، لعل غم السجن حملك على أن تروح بما ليس عندك فيه علم ، قال دانيال: لا تخف علي فإن لي ربا يخبرني بما شئت من حاجتي .

فانطلق صاحب السجن فأخبر بخت نصر بذلك ، فدعا دانيال فدخل ، ولا يدخل عليه أحد إلا سجد له ، فوقف دانيال ولم يسجد ، فقال الملك لمن في البيت: اخرجوا ، فخرجوا ، فقال: ما منعك أن تسجد لي؟ قال: إن لي ربا أتاني هذا العلم على أن لا أسجد لغيره ، فخشيت أن أسجد لك فينسلخ عني العلم ثم أصير في يديك أميا لا تنتفع بي فتقتلني ، فرأيت ترك السجدة أهون من القتل ، وخطر سجدة أهون من الكرب الذي أنت فيه ، فتركت السجود نظرا إلى ذلك .

فقال بخت نصر: لم يكن قط أوثق في نفسي منك حيث وفيت لإلهك ، وأعجب الرجال عندي الذين يوفون لأربابهم بالعهود ، فهل عندك علم بهذه الرؤيا التي رأيت؟

قال: نعم عندي علمها وتفسيرها .

قال: رأيت صنما عظيما ، رجلاه في الأرض ورأسه يمس السماء ، أعلاه من ذهب ووسطه من فضة ، وأسفله من نحاس ، وساقاه من حديد ، ورجلاه من فخار ، فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه وإحكام صنعته قذفه الله بحجر من السماء فوقع على قبة رأسه ، فدقه حتى طحنه ، فاختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره حتى يخيل إليك [ ص: 419 ] أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك ، ولو هبت الريح لأذرته .

ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم وينتشر حتى ملأ الأرضين كلها فصرت لا ترى [إلا] السماء والحجر .

قال له بخت نصر: صدقت هذه الرؤيا التي رأيت . فما تأويلها؟ قال: أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي أوسطه وفي آخره .

وأما الذهب فهذا الزمان ، وهذه الأمة التي أنت فيها وأنت ملكها . وأما الفضة ابنك من بعدك يملكها ، وأما النحاس فإنه الروم ، وأما الحديد ففارس ، وأما الفخار فأمتان تملكهما امرأتان إحداهما في مشرقاليمن ، والأخرى في غربي الشام .

وأما الحجر الذي قذف به الصنم؟ حذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان ، فيظهر عليها حتى يبعث نبي أمي من العرب فيدوخ به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم ، ويظهره على الأديان والأمم كما رأيت الحجر ظهر على الأرض وانتشر فيها حتى ملأها ، فيحق الله به الحق ، ويزهق به الباطل ، ويعز به الأذلة ، وينصر به المستضعفين .

فقال له بخت نصر: ما أعلم أحدا استفتيت به منذ وليت الملك على شيء غلبني غيرك ، ولا لأحد عندي يد أعظم من يدك ، وأنا أجازيك بإحسانك ، فاختر من ثلاث خلال أعرضهن عليك: إن أحببت أن أردك إلى بلادك ، وأعمر لك كل شيء خربته ، وإن أحببت كتبت لك أمانا تأمن به حيث ما ملكت ، وإن أحببت أن تقيم معي فأواسيك .

قال دانيال: أما قولك تردني إلى بلادي وتعمر لي ما خربت ، فإنها أرض كتب الله عز وجل عليها الخراب وعلى أهلها الفناء إلى أجل معلوم ، فليس تقدر على أن تعمر ما خرب الله ولا ترد أجلا أجله الله حتى يبلغ الكتاب أجله ، وينقضي هذا البلاء الذي كتب الله على إيليا وأهلها .

وأما قولك: أن تكتب لي أمانا آمن به حيث ما توجهت ، فإنه لا ينبغي لي أن أطلب مع أمان الله أمان مخلوق .

[ ص: 420 ]

وأما ما ذكرت من مواساتك ، فإن ذلك أرفق لي يومي هذا حتى يقضى فينا قضاء .

فجمع بخت نصر ولده وحشمه وأهل العلم والرأي من أهل المملكة ، فقال لهم: هذا رجل حكيم ، قد فرج الله به عني الكرب الذي عجزت عنه ، وإني رأيت أن أوليه أمركم ، فخذوا من أدبه وحكمته وأعظموا حقه ، فإذا جاءكم رسولان أحدهما مني والآخر من دانيال فآثروا حاجته على حاجتي .

قال: فنزل منه دانيال أفضل المنازل ، فجعل تدبير ملكه إليه ، فلما رأى ذلك عظماء أهل بابل حسدوا دانيال ، فاجتمعوا إلى بخت نصر ، فقالوا له: لم يكن على الأرض ملك أعز من ملكنا ، ولا قوم أهيب في صدور أهل الأرض منا ، حتى دانت لنا الأرض ، والآن قد طمعوا فينا منذ قلدت ملكك هذا العبد الإسرائيلي ، فقال: أتنقموني أني عمدت إلى أحكم أهل الأرض ، فاستعنت به .

ثم إن بخت نصر هلك ببعوضة سلطت عليه وملك مكانه ابنه "بلطا" فبطش بطش الجبارين ، وكان يشرب الخمر في آنية مسجد بيت المقدس التي غنمها أبوه ، فنهاه دانيال ، ثم قال له: إنك تقتل إلى ثلاثة ، ويسلب الله ملكك ، فدخل بيته وأغلق بابه ودعا أوثق الناس عنده ، وقال: الزم عتبة بابي فلا يمر بك أحد في هذه الأيام الثلاثة إلا قتلته ، وإن قال: إني أنا الملك .

فلما مضت الأيام الثلاثة قام الملك فخرج من الباب فرحا ، فمر بالحارس ، فقام الحارس فضربه بالسيف ، وهو يقول: أنا الملك ، فيقول: كذبت فقتله .

ورجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس ، فمكثوا بأحسن حال حتى مات دانيال ، ثم كثرت فيهم الأحداث والبغي ، فسلط الله عليهم أرطاصوس ، فقتل وسبى .

وهذا دانيال من بني إسرائيل ، وهو مدفون بالسوس ، ولما فتح أبو موسى السوس دل على جثة دانيال ، فقام رجل إلى جثته ، فكانت ركبة دانيال محاذية رأسه ، وليس بدانيال الأكبر ، فإن ذاك كان بين نوح وإبراهيم ، وقد سبق ذكره .

[ ص: 421 ]

[ذكر الملوك بعد ذلك]

وتوفي بهمن وكان ملكه مائة واثنتي عشرة سنة ، وقيل ثمانين سنة .

ثم ملكت بعده ابنته خمانى ، واختلفوا في سبب تمليكها . فقال بعضهم: إنما ملكوها لعقلها ونجدتها وإحسان أبيها إليهم .

وقال آخرون: كانت حاملا من أبيها بهمن بدارا الأكبر ، فسألت أباها أن يعقد له التاج وهو في بطنها ، ففعل . وكان ساسان من امرأة أخرى ، وكان حينئذ رجلا ينتظر الملك لا يشك فيه ، فلما فعل أبوه ذلك لحق بإصطخر وتزهد وتعبد في رؤوس الجبال ، واتخذ غنيمة ، فكان يتولاه بنفسه .

وقيل: إن خمانى ولدت بعد أشهر من ملكها ، فأخفت من إظهار الولد ، فجعلته في تابوت ، وصيرت معه جوهرا نفيسا ، وأجرته تحت نهر من أنهار إصطخر ، وقيل: من أنهار بلخ ، فوقع التابوت إلى رجل طحان من أهل إصطخر ، فأخذه ورباه ، وظهر أمره حين شب ، وأقرت خمانى بإساءتها إليه وتعريضها إياه للتلف ، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون عليه أبناء الملوك ، فحولت التاج عن رأسها إليه ، وتقلد أمر المملكة ، وتنقلت خمانى إلى فارس ، وبنت مدينة إصطخر ، وقمعت الأعداء ، ومنعتهم من بلادها ، وأغزت أرض الروم ، فسبي سبي كثير ، فأمرت أن يبنى لها في كل موضع بنيانا منيفا ، فأحد ذلك البنيان في مدينة إصطخر .

والثاني على المدرجة التي يسلك فيها إلى دار بجرد على فرسخ من المدينة .

[والثالث على أربعة فراسخ منها في المدرجة التي تسلك فيها إلى خراسان .

وإنها أجهدت نفسها في طلب مرضاة الله تعالى .

وكان ملكها ثلاثين سنة] .

[ ص: 422 ]

وكان بعض ملكها في زمن كيرش العيلمي ، الذي ذكرنا آنفا أنه تولى بيت المقدس على بني إسرائيل .

وعاشت خمانى بعد هلاك كيرش ستا وعشرين سنة ، وكانت مدة خراب بيت المقدس من لدن خربه بخت نصر إلى أن عمر سبعين سنة ، بعضها في أيام بهمن ، وبعضها في أيام خمانى .

وقد ذكرنا ما يدل على أن التخريب لبيت المقدس كان قبل ذلك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية