الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (60) قوله تعالى: إلا امرأته : فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء من آل لوط. قال أبو البقاء: "والاستثناء إذا جاء بعد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافا إلى المبتدأ كقولك: "له عندي عشرة إلا أربعة إلا درهما" فإن الدرهم يستثنى من الأربعة، فهو مضاف إلى العشرة، فكأنك قلت: أحد عشر إلا أربعة، أو عشرة إلا ثلاثة".

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنها مستثناة من الضمير المجرور في "منجوهم". وقد منع الزمخشري الوجه الأول، وعين الثاني فقال: فإن قلت: فقوله: "إلا امرأته" مم استثني؟ وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت: مستثنى من الضمير المجرور في قوله: "لمنجوهم" وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء; لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته، كما اتحد في قول المطلق: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين [ ص: 169 ] إلا واحدة، وقول المقر لفلان: علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهما، وأما الآية فقد اختلف الحكمان؛ لأن إلا آل لوط متعلق بـ "أرسلنا" أو بمجرمين، و إلا امرأته قد تعلق بقوله: "لمنجوهم" فأنى يكون استثناء من استثناء؟

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: ولما استسلف الزمخشري أن "امرأته" استثناء من الضمير في "لمنجوهم" أنى أن يكون استثناء من استثناء؟ ومن قال: إنه استثناء من استثناء فيمكن تصحيح قوله بأحد وجهين، أحدهما: أنه لما كان "امرأته" مستثنى من الضمير في "لمنجوهم" وهو عائد على آل لوط صار كأنه مستثنى من آل لوط، لأن المضمر هو الظاهر. والوجه الآخر: أن قوله: إلا آل لوط لما حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله: إنا لمنجوهم أجمعين تأكيدا لمعنى الاستثناء، إذ المعنى: إلا آل لوط لم يرسل إليهم بالعذاب، ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير قولك: "قام القوم إلا زيدا لم يقم"، أو "إلا زيدا فإنه لم يقم"، فهذه الجملة تأكيد لما تضمن الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه، فـ "إلا امرأته" على هذا التقرير الذي قررناه مستثنى من آل لوط، لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء به للتأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأخوان: "لمنجوهم" مخففا، وكذلك خففا أيضا فعل هذه الصفة في قوله تعالى في العنكبوت: لننجينه وأهله وكذلك خففا أيضا [ ص: 170 ] قوله فيها: (إنا منجوك) فهما جاريان على سنن واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد وافقهما ابن كثير وأبو بكر على تخفيف "منجوك" كأنهما جمعا بين اللغتين. وباقي السبعة بتشديد الكل، والتخفيف والتشديد لغتان مشهورتان من نجى وأنجى كأنزل ونزل، وقد نطق بفعلهما قال: فلما نجاهم وفي موضع آخر: أنجاهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "قدرنا" أبو بكر بتخفيف [الدال] والباقون بتشديدها، وهما لغتان: قدر وقدر، وهذا الخلاف أيضا جار في سورة النمل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إنها" كسرت من أجل اللام في خبرها وهي معلقة لما قبلها، لأن فعل التقدير يعلق إجراء له مجرى العلم: إما لكونه بمعناه، وإما لأنه مترتب عليه. قال الزمخشري : فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله: "قدرنا إنها"، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمن فعل التقدير معنى العلم. قال الشيخ: وكسرت "إنها" إجراء لفعل التقدير مجرى العلم. قلت: وهذا لا يصح علة لكسرها، إنما يصلح علة لتعليقها الفعل قبلها، والعلة في كسرها ما قدمته في وجود اللام ولولاها لفتحت.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية