الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول أي ما نفهم ذلك كأنهم جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف إذ ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ولم يجدوا إلى محاورته عليه السلام سبيلا من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه، وقيل: قالوا ذلك استهانة به عليه السلام كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به: لا أدري ما تقول، وليس فيه كثير مغايرة للأول، ويحتمل أن يكون ذلك لعدم توجههم إلى سماع كلامه عليه السلام لمزيد نفرتهم عنه أو لغباوتهم وقصور عقولهم، قيل: وقولهم كثيرا للفرار على المكابرة ولا يصح أن يراد به الكل وإن ورد في اللغة لأن مما تقول يأبى ذلك، كما أن كثيرا منهم يأبى حمل كلامهم هذا على أنه كناية عن عدم القبول، وزعم بعضهم أنهم إنما لم يفقهوا كثيرا مما يقول لأنه عليه السلام كان ألثغ، وأظن أنه لم يفصح بذلك خبر صحيح على أن ظاهر ما جاء من وصفه عليه السلام بأنه خطيب الأنبياء يأبى ذلك، ولعل صيغة المضارع للإيذان بالاستمرار وإنا لنراك فينا أي فيما بيننا ضعيفا لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن ابن عباس، وابن جبير ، وسفيان الثوري وأبي صالح تفسير الضعيف بالأعمى وهي لغة أهل اليمن، وذلك كما يطلقون عليه ضريرا، وهو من باب الكناية على ما نص عليه البعض، وإطلاق البصير عليه كما هو شائع من باب الاستعارة تلميحا، وضعف هذا التفسير بأن التقييد بقولهم: فينا بصير لغو؛ لأن من كان أعمى يكون أعمى فيهم وفي غيرهم وإرادة لازمة وهي الضعف بين من ينصره ويعاديه، ولا يخفى تكلفه، ومن هنا قال الإمام: جوز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم السلام لكن لا يحسن الحمل عليه هنا، وأنت تعلم أن المصحح عند أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام ليس فيهم أعمى وما حكاه الله تعالى عن يعقوب عليه السلام كان أمرا عارضا وذهب.

                                                                                                                                                                                                                                      والأخبار المروية عمن ذكرنا في شعيب عليه السلام لم نقف على تصحيح لها سوى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فإن الحاكم صحح بعض طرقه لكن تصحيح الحاكم كتضعيف ابن الجوزي غير معول عليه، وربما يقال فيه نحو ما قيل في يعقوب عليه السلام، فقد أخرج الواحدي، وابن عساكر عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بكى شعيب عليه السلام من حب الله تعالى حتى عمي فرد الله تعالى عليه بصره وأوحى إليه: يا شعيب ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار، فقال: لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فلا أبالي ما الذي تصنع بي، فأوحى الله تعالى إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي. وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يجوز استنباء الأعمى لكونه صفة منفردة لعدم الاحتراز معه عن النجاسات، ولأنه يخل بالقضاء والشهادة، فإخلاله بمقام النبوة أولى [ ص: 124 ] وأجيب بأنا لا نسلم عدم الاحتراز معه عن النجاسات، فإن كثيرا ممن نشاهده من العميان أكثر احترازا عنها من غيره، وبأن القاضي والشاهد يحتاجان إلى التمييز بين المدعي والمدعى عليه، والنبي لا يحتاج لتمييز من يدعوه مع أنه معصوم فلا يخطئ كغيره كذا قيل فلينظر، ولولا رهطك أي جماعتك، قال الراغب: هم ما دون العشرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السبعة، وقيل: بل يقال: إلى الأربعين، ولا يقع فيما قيل كالعصبة والنفر إلا على الرجال، ومثله الراهط وجمعه أرهط وجمع الجمع أراهط، وأصله على ما نقل عن الرماني الشد، ومنه الرهيط لشدة الأكل والراهطاء لجحر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبئ فيه ولده، والظاهر أن مرادهم لولا مراعاة جانب رهطك لرجمناك أي لقتلناك برمي الأحجار، وهو المروي عن ابن زيد، وقيل: ذلك كناية عن نكاية القتل كأنهم قالوا: لقتلناك بأصعب وجه، وقال الطبري: أرادوا لسببناك كما في قوله تعالى: لأرجمنك واهجرني مليا وقيل: لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا، ولم يجوزوا أن يكون المراد لولا ممانعة رهطك ومدافعتهم، لأن ممانعة الرهط وهم عدد نزر لألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم، ومعنى وما أنت علينا بعزيز ما أنت بمكرم محترم حتى نمتنع من رجمك، وإنما نكف عنك للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا، والجار الأول متعلق -بعزيز- وجاز لكون المعمول ظرفا، والباء مزيدة، ولك أن تجعله متعلقا بمحذوف يفسره الظاهر، وهو خبر -أنت- وقد صرح السكاكي في المفتاح أنه قصد بتقديم هذا الضمير الذي هو فاعل معنوي وإن لم يكن الخبر فعلا بل صفة مشبهة وإيلائه النفي الحصر والاختصاص، أي اختصاص النفي بمعنى أن عدم العزة مقصور عليك لا يتجاوزك إلى رهطك لا بمعنى نفي الاختصاص بمعنى لست منفردا بالعزة، وهو ظاهر، قاله العلامة الثاني، قال السيد السند: إنه قصد فيه نفي العزة عن شعيب عليه السلام وإثباتها لرهطه، فيكون تخصيصا للعزة بهم ويلزمه تخصيص عدمها به إلا أن المتبادر كما يشهد به الذوق السليم هو القصد إلى الأول، واستدل السكاكي على كون ذلك للاختصاص بقوله عليه السلام في جواب هذا الكلام ما حكي بقوله عز شأنه:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية