الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .

                          هذه الآية من تتمة أحكام الجهاد بالقتال ، مع زيادة حكم طلب العلم والنفقة في الدين وهو آلة الجهاد بالحجة والبرهان ، الذي عليه مدار الدعوة إلى الإيمان وإقامة دعائم الإسلام ، وإنما جهاد السيف حماية وسياج . وسببها أن ما ورد في فضل الجهاد وثوابه وفي ذم القاعدين عنه وكونه من شأن المنافقين دون المؤمنين الصادقين قوى رغبة المؤمنين فيه حتى كانوا إذا أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إرسال سرية للقاء بعض المشركين وإن قلوا ينتدب لها جميع المؤمنين ويتسابقون إلى الخروج فيها ، ويدعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده أو مع نفر قليل كما ورد ، وإنما يجب هذا في النفير العام إذا وجد سببه بقدر الحاجة لا في كل استنفار لمقاومة الكفار ، على أن النفر العام قد يتعذر أو تكثر فيه الأعذار ، وقيل إنه لم يكن واجبا على عمومه إلا في عهده - صلى الله عليه وسلم - ، أو على الأنصار بمقتضى مبايعتهم له ( راجع ص 271 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) أي ما كان شأن المؤمنين ولا مما يجب عليهم ويطلب منهم ، أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد ، فإن هذه السرايا من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان ، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للخروج ( فلولا نفر من كل فرقة ) لولا حرف تحضيض وحث على ما تدخل عليه : أي فهلا نفر للقتال من كل فرقة كبيرة ( منهم ) كالقبيلة أو أهل المدينة ، ( طائفة ) أي جماعة بقدر الحاجة [ ص: 63 ] ( ليتفقهوا في الدين ) أي ليتأتى لهم أي المؤمنين في جملتهم التفقه في الدين بأن يتكلف الباقون في المدينة الفقاهة في الدين بما يتجدد نزوله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الآيات ، وما يجري عليه - صلى الله عليه وسلم - من بيانها بالقول والعمل ، فيعرف الحكم مع حكمته ، ويفصل العلم المجمل بالعمل به ، ( ولينذروا قومهم ) الذين نفروا للقاء العدو ( إذا رجعوا إليهم ) أي يجعلوا جل همهم من الفقاهة بأنفسهم إرشاد هؤلاء وتعليمهم ما علموا ، وإنذارهم عاقبة الجهل ، وترك العمل بالعلم ( لعلهم يحذرون ) أي رجاء أن يخافوا الله ويحذروا عاقبة عصيانه ; ويكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته ، وإقامة حجته ، وتعميم هدايته ، فهذا ما يجب أن يكون غاية العلم والتفقه في الدين والغرض منه لا الرياسة والعلو بالمناصب ، والتكبر على الناس وطلب المنافع الشخصية منهم .

                          والآية تدل على وجوب تعميم العلم والتفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم ، ويكونون به هداة لغيرهم ، وأن المتخصصين لهذا التفقه بهذه النية ، لا يقلون في الدرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله والدفاع عن الملة والأمة . بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع فرضا عينيا ، والدلائل على هذا كثيرة ، وما قاله بعض الأصوليين من دلالة الآية على الاحتجاج بخبر الواحد متكلف بعيد عن معنى النظم الكريم ، ومبني على أن لفظ طائفة يطلق على الواحد كما قيل وهو باطل .

                          كنت أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإداري ( المتصرف ) فيها مصطفى باشا بابان من سروات الكرد ، وكان من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية ، وقد قال لي مرة في دارنا بالقلمون : لماذا تستثني الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من خدمة العسكرية وهي واجبة شرعا وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب ؟ - يعرض بي - أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع ؟ فقلت له على البداهة بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم وتلوت الآية ، فاستكثر الجواب على مبتدئ مثلي لم يقرأ التفسير وأثنى ودعا . وقد تعارضت الروايات المأثورة في هذه الآية فاختلفت الأقوال في تفسيرها ، والحق فيها ما قلنا وعليه الجمهور .

                          أخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال نسخ هؤلاء الآيات : ( انفروا خفافا وثقالا ) ( 9 : 41 ) - ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) ( 9 : 39 ) قوله : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) يقول لتنفر طائفة ولتمكث طائفة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالماكثون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو لعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده .

                          [ ص: 64 ] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في المدخل عنه في الآية : يعني ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده - فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني عصبة يعني السرايا فلا يسيرون إلا بإذنه . فإذا رجعت السرايا وقد نزل قرآن تعلمه القاعدون من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا إن الله أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمناه ، فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بعدهم ، ويبعث سرايا أخر ، فذلك قوله : ( ليتفقهوا في الدين ) يقول يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم ( لعلهم يحذرون ) .

                          فأما قوله في الرواية الأولى بأن هذه الآية نسخت آيات النفير العام فهو قد يوافق إطلاق السلف في النسخ ومنه عندهم تخصيص العام وتقييد المطلق ، ولا يصح هنا النسخ المصطلح عليه في أصول الفقه ; لأن موضع النفير الخاص غير موضع النفير العام ، فلا تنافي بين الأحكام . وبهذا يقول جمهور العلماء .

                          وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري أنه جعل الضمير في قوله تعالى : ( ليتفقهوا في الدين ) للطائفة التي تنفر للغزو لا للتي تبقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وذلك قوله : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم . وزعم الطبري : أن هذا القول أولى بالصواب ، وأوضح ذلك بأن هذه الطائفة النافرة تتفقه بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك من معاينة حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه .

                          ( ولينذروا قومهم ) فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا ممن ظفر به المسلمون من أهل الشرك ( إذا ) هم ( رجعوا إليهم ) من غزوهم ( لعلهم يحذرون ) يقول لعل قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروهم خبرهم ا هـ .

                          وهذا تأويل متكلف ينبو عنه النظم الكريم ; فإن اعتبار طائفة السرية بما قد يحصل لها من النصر - وهو غير مضمون ولا مطرد - لا يسمى تفقها في الدين وإن كان يدخل في عموم معنى الفقه ، فإن التفقه هو : التعلم الذي يكون بالتكلف والتدرج والمتبادر من الدين علمه ، ولا يصح هذا المعنى في ذلك العهد إلا في الذين يبقون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيزدادون كل يوم علما وفقها بنزول القرآن كما تقدم آنفا في تفسير : ( وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ) ( 9 : 97 ) وما يأتي قريبا فيما ينزل من السور فيزداد به الذين آمنوا إيمانا . وأخذ بعضهم من قول الحسن أنه يشمل السفر لأجل طلب العلم لما في الرحلة من أسباب زيادة الاستفادة بالانقطاع للعلم ولقاء أساطينه ، وعلل بعضهم فضيلة السياحة بذلك كما تقدم قريبا .

                          [ ص: 65 ] وقد بينا معنى الفقه في عرف اللغة واستعمال القرآن ، وأنه أخص من العلم بفروع الأحكام ، وحققناه بشواهد الآيات في تفسير ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) ( 7 : 179 ) ( 352 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية