الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين بعد ذكر تلك القصة المرشدة الهادية لكل مستبصر معتبر ، بين الله سبحانه أن هذه الآيات المتلوة هي من عند الله ، وهي تتلى بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنها تتلى على الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهي معجزته وآية رسالته ، وإنما ذلك بعد هذه القصة لما فيها من الدلائل الواضحة البينة التي تثبت رسالة النبي الكريم ; لأن ذلك القصص الصادق جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب ، لم يجلس إلى معلم ، ولم يأته علم لا بطريق كتاب يقرؤه ; لأنه ليس بقارئ ، ولا بطريق معلم يعلمه ، ولا بتلقين من أي جهة كان التلقين ، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - من أمة أمية ليس فيها علم مدون في كتب ، ولا علماء يتدارسون ، ولم يكن جو علمي ينال منه الأريب بالخلطة والاتصال ، ولم يكنمحمد - صلى الله عليه وسلم - في حياته ذا نجعة وأسفار ، بل لم ينتقل من مكة إلا مرتين كانت أولاهما وهو غلام ، وكانت الثانية وهو يقارب الخامسة والعشرين .

                                                          [ ص: 915 ] فإذا كانت حال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك والقصص جاء على ذلك النحو من الأحكام والإرشاد والتعليم وبيان سنن الاجتماع والحكم الأمثل والقيادة الرشيدة مع صدقه في ذاته ، فهو دليل على أنه من عند الله .

                                                          والإشارة في قوله تعالى : تلك آيات الله إلى الآيات المتلوة من قوله تعالى : ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل إلى آخر القصة وكانت الإشارة للبعيد ، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات من أولها إلى آخرها ولعلو شأنها ، وكمال معانيها والوفاء في مقاصدها . وإضافة الآيات إلى الله لأنها جزء من القرآن وكله من عند الله ، فالإضافة لتقرير هذا المعنى وتوكيده ، وتنبيه الأذهان دائما إليه ليعطوه حقه من الفهم والتدبير والاسترشاد به ، والاعتبار بما اشتمل عليه من مواعظ وقصص وعبر .

                                                          وقوله تعالى : نتلوها عليك بالحق يفيد أمرين :

                                                          أولهما : أن القرآن كان يتلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتلقاه بالروح الأمين . وإسناد التلاوة إلى الله العلي القدير مع أن الذي كان يلقي القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو جبريل - للإشارة إلى أن تلاوة جبريل هي تلاوة الله فهو رسوله الأمين إلى رسله المكرمين .

                                                          الأمر الثاني : أن ما في القرآن حق دائما ، أي أمر ثابت لا يقبل التغيير فليس لأحد أن يقول إن القرآن صالح لزمان دون زمان ، لأنه الحق الثابت المستقر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فعلى العقول أن تتفهمه وتتدبره ثم تخضع لأحكامه المستقرة الثابتة من غير محاولة للتغيير أو التبديل .

                                                          والتلاوة هي القراءة المتتابعة المفسرة الواضحة التي تتصل فيها المعاني وتتسابق فيها الألفاظ بحيث يكون الأداء ممثلا للمعنى مصورا له . وقد قال الراغب في مفرداته إن مادة " تلا " أصلها بمعنى تبع متابعة ليس بينها ما ليس منها ، وذلك يكون تارة بالجسم ، وتارة بالاقتداء في الحكم ومصدره تلو وتلو ، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى ، ومصدره تلاوة . . ثم قال : [ ص: 916 ] " والتلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة تارة بالقراءة ، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي وترغيب وترهيب ، وهي أخص من القراءة فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة " .

                                                          فالتلاوة خاصة بقراءة كلام الله سبحانه وتعالى بمقتضى التخصيص القرآني .

                                                          وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى : وإنك لمن المرسلين

                                                          وإن ذلك كالنتيجة ; لأن الله سبحانه وتعالى يتلو عليه آياته بالحق والصدق ، فإن تلك الآيات برهان النبوة ومعجزة الرسالة ، وقد أكد الله سبحانه وتعالى رسالة رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة مؤكدات :

                                                          أولها : " إن " ، فإنها في أصل معناها للتأكيد ، وهو يصحبها في دلالتها دائما .

                                                          وثانيها : " اللام " في قوله تعالى ( لمن ) .

                                                          وثالثها : " الجملة الاسمية " ، وإدخاله - صلى الله عليه وسلم - في عداد المرسلين .

                                                          وإن قوله تعالى : وإنك لمن المرسلين يدل على أمر آخر ، وهو أن إرسال رسول من قبل رب العالمين أمر مقرر ثابت معروف عند أهل العلم فلم تكن رسالة محمد وهو من البشر بدعا ، ولا أمرا غير مألوف أو معروف فلا يماري في أصل الرسالة إلا جهول ، أو جحود .

                                                          وإن القرآن وحده حقا هو الدلالة على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فهو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية