الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ياأيها الذين آمنوا قيل : هو كلام مبتدأ للترهيب والترغيب فيما ذكر ، وقيل : هو اعتراض بين أثناء قصة أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أضعافا مضاعفة ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريم الربا على كل حال ، ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا ، فإنهم كانوا يربون إلى أجل ، فإذا حل الأجل زادوا في المال مقدارا يتراضون عليه ، ثم يزيدون في أجل الدين ، فكانوا يفعلون ذلك مرة بعد مرة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء ، وأضعافا حال ، ومضاعفة نعت له ، وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام ، والمبالغة في هذه العبارة تفيد تأكيد التوبيخ . قوله : واتقوا النار التي أعدت للكافرين فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال كثير من المفسرين : وفيه أنه يكفر من استحل الربا ، وقيل معناه : اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار . وإنما خص الربا في هذه الآية ; لأنه الذي توعد الله عليه بالحرب منه لفاعله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وأطيعوا الله والرسول حذف المتعلق مشعر بالتعميم ; أي : في كل أمر ونهي لعلكم ترحمون أي راجين الرحمة من الله عز وجل . وقوله : وسارعوا عطف على أطيعوا ، وقرأ نافع وابن عامر ( سارعوا ) بغير واو ، وكذلك في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام ، وقرأ الباقون بالواو .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو علي : كلا الأمرين سائغ مستقيم ، والمسارعة : المبادرة ، وفي الآية حذف ، أي سارعوا إلى ما يوجب [ ص: 244 ] المغفرة من الطاعات . وقوله : عرضها السماوات والأرض [ الحديد : 21 ] أي : عرضها كعرض السماوات والأرض ، ومثله الآية الأخرى عرضها كعرض السماء والأرض [ الحديد : 21 ] وقد اختلف في معنى ذلك ، فذهب الجمهور إلى أنها تقرن السماوات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة ، ونبه بالعرض على الطول ; لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض ، وقيل : إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة ، وذلك أنها ما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى ، حسن التعبير عنها بعرض السماوات والأرض مبالغة ; لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده ، ولم يقصد بذلك التحديد .

                                                                                                                                                                                                                                      والسراء : اليسر ، والضراء : العسر . وقد تقدم تفسيرهما - وقيل السراء : الرخاء ، والضراء : الشدة ، وهو مثل الأول ، وقيل : السراء في الحياة ، والضراء بعد الموت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : والكاظمين الغيظ يقال كظم غيظه ; أي : سكت عليه ولم يظهره ، ومنه كظمت السقاء ; أي : ملأته . والكظامة : ما يسد به مجرى الماء ، وكظم البعير جرته : إذا ردها في جوفه ، وهو عطف على الموصول الذي قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : والعافين عن الناس أي : التاركين عقوبة من أذنب إليهم واستحق المؤاخذة ، وذلك من أجل ضروب الخير . وظاهره العفو عن الناس سواء كانوا من المماليك أم لا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج وغيره : المراد بهم المماليك . واللام في المحسنين يجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء وغيرهم ، ويجوز أن تكون للعهد فيختص بهؤلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      والأول أولى اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السياق فيدخل تحته كل من صدر منه مسمى الإحسان ; أي إحسان كان . قوله : والذين إذا فعلوا فاحشة هذا مبتدأ وخبره أولئك وقيل : معطوف على المتقين .

                                                                                                                                                                                                                                      والأول أولى ، وهؤلاء هم صنف دون الصنف الأول ملحقين بهم وهم التوابون ، وسيأتي ذكر سبب نزولها ، والفاحشة وصف لموصوف محذوف ; أي : فعلة فاحشة وهي تطلق على كل معصية . وقد كثر اختصاصها بالزنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أو ظلموا أنفسهم أي : باقتراف ذنب من الذنوب ، وقيل : أو بمعنى الواو . والمراد ما ذكر ، وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة ، وقيل غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ذكروا الله أي : بألسنتهم أو أخطروه في قلوبهم أو ذكروا وعده ووعيده فاستغفروا لذنوبهم أي : طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه ، وتفسيره بالتوبة خلاف معناه لغة ، وفي الاستفهام بقوله : ومن يغفر الذنوب إلا الله من الإنكار مع ما يتضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره ; أي : لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله ، وفيه ترغيب لطلب المغفرة منه سبحانه وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل ، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه . وقوله : ولم يصروا على ما فعلوا عطف على فاستغفروا ; أي : لم يقيموا على قبيح فعلهم . وقد تقدم تفسير الإصرار . والمراد به هنا العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : " وهم يعلمون " جملة حالية ; أي : لم يصروا على فعلهم عالمين بقبحه . قوله : أولئك جزاؤهم الإشارة إلى المذكورين بقوله : والذين إذا فعلوا فاحشة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : جزاؤهم بدل اشتمال من اسم الإشارة . وقوله : مغفرة خبر من ربهم متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة ; أي : كائنة من ربهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ونعم أجر العاملين المخصوص بالمدح محذوف ; أي : أجرهم ، أو ذلك المذكور . وقد تقدم تفسير الجنات وكيفية جري الأنهار من تحتها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : قال : كانوا يتبايعون إلى الأجل ، فإذا جاء الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل ، فنزلت ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء قال : كانت ثقيف تدين بني المغيرة في الجاهلية وذكر نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاوية بن قرة قال : كان الناس يتأولون هذه الآية واتقوا النار التي أعدت للكافرين اتقوا لا أعذبكم بذنوبكم في النار التي أعددتها للكافرين . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح قال : قال المسلمون : يا رسول الله أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا ؟ كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا ، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت " وسارعوا " الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن أنس بن مالك في تفسير وسارعوا قال : التكبيرة الأولى . وأخرج ابن جرير من طريق السدي عن ابن عباس في قوله : عرضها السماوات والأرض مثل ما ذكرناه سابقا عن الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج نحوه عنه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق كريب . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : الذين ينفقون في السراء والضراء يقول : في اليسر والعسر والكاظمين الغيظ يقول : كاظمين على الغيظ : وقد وردت أحاديث كثيرة في ثواب من كظم الغيظ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن النخعي في الآية قال : الظلم من الفاحشة والفاحشة من الظلم . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني وابن أبي الدنيا وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال : إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنبا فقرأهما فاستغفر الله إلا غفر له والذين إذا فعلوا فاحشة الآية ، وقوله : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [ النساء : 110 ] الآية . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن ثابت البناني قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى والذين إذا فعلوا فاحشة الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحكيم الترمذي عن عطاف بن خالد قال : بلغني أنه لما نزل قوله تعالى : ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا [ ص: 245 ] صاح إبليس بجنوده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر ، فقالوا : ما لك يا سيدنا ؟ قال : آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحدا من بني آدم ذنب ، قالوا : وما هي ؟ فأخبرهم ، قالوا : نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق ، فرضي منهم بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والحميدي وعبد بن حميد وأهل السنن الأربع وحسنه النسائي وابن حبان والدارقطني في الأفراد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتطهر ثم يصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفر الله له ، ثم قرأ هذه الآية والذين إذا فعلوا فاحشة الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن مرفوعا نحوه ، ولكنه قال : ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى . وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : ولم يصروا فيسكتون ولا يستغفرون . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل ونعم أجر العاملين قال : أجر العاملين بطاعة الله الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية