الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 3972 ] قال الله تعالى:

                                                          وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب

                                                          المكر العمل على صرف غيره عن مقصده بحيلة، وأنه يأخذ وصف الذم والحمد، من المقصد الذي قصد الصرف، فإن كان ذلك القصد مذموما، فالصرف عنه خير، ما لم يكن السبيل ذاته شرا، وإن كان القصد محمودا، فالصرف عنه مذموم؛ لأن الصرف عن المحمود يوجب الذم.

                                                          وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى: وقد مكر الذين من قبلهم الضمير يعود إلى المشركين، أي مكر الذين من قبلهم الذين ساروا هم على سننهم، وضلوا ضلالا بعيدا مثلهم، ولا شك أن من هذه حالهم مكرهم يكون لتحويل الناس عن إطاعة النبيين، وصرف النبيين لهم عن اتباعهم، وذلك بطرق التدبير السيئ المختلفة من اضطهاد وأذى وسخر بهم، وقيل لهم أحيانا، والشتم والذم في أكثر الأحيان، فقد سخر قوم نوح منه وممن تبعه، وقالوا ما اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وكذلك قوم هود وقوم صالح، وآل مدين قوم شعيب.

                                                          وذكر هذا الخبر للمشركين لبيان أنهم لن يضيروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، مكرهم إلى هباء، ولا يعد شيئا بجوار مكر الله تعالى، والتدبير للمؤمنين لينجوا من شرهم؛ ولذا قال تعالى: فلله المكر جميعا أي لله وحده التدبير الذي يحول القلوب، وقد دل هذا النص السامي على ثلاثة أمور: [ ص: 3973 ] الأمر الأول: أن مكرهم لا اعتداد به، ولا ثمرة له في تحقيق الغاية التي أرادوها، وهو تحويل الناس عن عقائدهم إذا آمنوا بها.

                                                          الأمر الثاني: أن القلوب بيد الله، وهو الذي يهديها، وهو الذي يتركها تسير في مهواة الضلالة، حتى تنهوي فيها.

                                                          الأمر الثالث: أن الله مذهب كيدهم، وجاعله في هباء، وناصر أهله.

                                                          وإن الله تعالى تدبيره منتج مثمر لا محالة؛ لأنه يعلم ما تكسب كل نفس من خير أو شر، وتتحدث به النفوس، وما تكسبه الجوارح، وهو وحده مقلب القلوب.

                                                          قلنا: إن ذكر مكر السابقين لبيان العبرة للمشركين الذين عاندوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومحاولتهم فتنة المؤمنين لتحويلهم عن دينهم الذي ارتضوه، وفيه إشارة إلى بطلان مكرهم، وإلى أن مكر الله فوقهم، وأنهم إذ يمكرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يقاومون بمكرهم مكر الله وتدبيره للمؤمنين أوليائه؛ ولذا قال تعالى مهددا لهم: وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار الكفار (أل) فيها للعهد، أي كفار العرب من مشركين ويهود، ومن لف لفهم، والسين لتأكيد وقوع الخبر في المستقبل، والعلم الذي سيعلمونه علم معاينة، لا علم خبر وإخبار، أن تتوالى عليهم الهزائم هزيمة بعد هزيمة حتى تصير الأرض العربية كلها تحت ظل الإسلام الظليل، ويخرج المشركون من رجس الوثنية، والفساد اليهودي المنحرف، وتكون الكلمة العليا لله ولرسوله، وللمؤمنين، ومن بقي على كفره يعلم علما آخر بعقبى الدار في جهنم للكافرين، والجنة للمؤمنين.

                                                          وقوله: لمن عقبى الدار لمن جار ومجرور، والمعنى لمن تكون عقبى الدار، أي عاقبة هذه الحياة الدنيا التي تكون فيها هذه المغالبة بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، وإن العقبى هي غلب الإيمان في الدنيا، والجنة لمن آمن في الآخرة، والنار لمن عصى، والله سبحانه وتعالى أعلم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية