الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أعمال الكفار باطلة ، وأنها لا شيء ; لأنه قال في السراب الذي مثلها به : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وما دلت عليه هذه الآية [ ص: 550 ] الكريمة من بطلان أعمال الكفار ، جاء موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء الآية [ 14 \ 18 ] ، وقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أن عمل الكافر إذا كان على الوجه الصحيح أنه يجزى به في الدنيا ; كما أوضحناه في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد دلت آيات من كتاب الله على انتفاع الكافر بعمله في الدنيا ، دون الآخرة ; كقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] ، وقوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 - 16 ] ، وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا ، دون الآخرة ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس - رضي الله عنه - ; كما أوضحناه في الكلام على آية " النحل " المذكورة ، وهو أحد التفسيرين في قوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، أي : : وفاه حسابه في الدنيا على هذا القول ، وقد بين الله - جل وعلا - في سورة " بني إسرائيل " أن ما دلت عليه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا ، أنه مقيد بمشيئة الله تعالى ، وذلك في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا [ 17 \ 18 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ذكرناه وذكرنا الجواب عنه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وذلك في قولنا فيه : لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن الضمير في قوله : جاءه يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء ; لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل ، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضايفين ، فلا تدرك إلا بإدراكهما ، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل ، إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء ، ومفعول به [ ص: 551 ] واقع عليه المجيء ، وقوله تعالى : لم يجده شيئا يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى : جاءه .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عن هذا من وجهين ، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : فإن قال قائل كيف قيل : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فإن لم يكن السراب شيئا فعلام دخلت الهاء في قوله : حتى إذا جاءه ؟ قيل : إنه شيء يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد ، فإذا قرب منه رق وصار كالهواء ، وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه ، انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الأول أظهر عندي ، وعنده بدليل قوله : وقد يحتمل أن يكون معناه ، إلخ ، انتهى كلامنا في " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وقد رأيت فيه جواب ابن جرير الطبري عن السؤال المذكور ، وقوله تعالى في هذه الآية : بقيعة قيل : جمع قاع ، كجار وجيرة ، وقيل : القيعة والقاع بمعنى ، وهو المنبسط المستوي المتسع من الأرض ، وعلى هذا فالقاع واحد القيعان ، كجار وجيران .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية