الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2554 باب التزويج على تعليم القرآن

                                                                                                                              وذكره النووي ، في باب الصداق المذكور

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 211 - 214 جـ9 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا، جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: فهل عندك من شيء؟ فقال: لا. والله يا رسول الله! فقال: اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب، ثم رجع، فقال: لا. والله! ما [ ص: 226 ] وجدت شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظر ولو خاتما من حديد" فذهب، ثم رجع، فقال: لا. والله يا رسول الله! ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري. (قال سهل : ما له رداء) فلها نصفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا، فأمر به فدعي، فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن؟" قال: معي سورة كذا وسورة كذا، عددها، فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟" قال: نعم. قال: "اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن". ] .

                                                                                                                              هذا حديث ابن أبي حازم

                                                                                                                              وحديث يعقوب يقاربه في اللفظ.

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن سهل بن سعد الساعدي) رضي الله عنهما: (قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

                                                                                                                              قال الحافظ: هذه المرأة، لم أقف على اسمها. ووقع في "الأحكام" لابن الطلاع: أنها خولة بنت حكيم، أو أم شريك; [ ص: 227 ] وهذا نقل من اسم الواهبة، الوارد في قوله تعالى الآتي. ولكن هذه غيرها.

                                                                                                                              (فقالت: يا رسول الله! جئت أهب لك) أي: أمر (نفسي) . لأن رقبة الحر لا تملك.

                                                                                                                              وفيه: دليل لجواز هبة المرأة: نكاحها له. كما قال الله تعالى: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين }

                                                                                                                              قال النووي : هذه الآية، وهذا الحديث، دليلان لذلك. فإذا وهبت امرأة نفسها له صلى الله عليه وآله وسلم، فتزوجها بلا مهر، حل له ذلك. ولا يجب عليه بعد ذلك مهرها بالدخول، ولا بالوفاة، ولا بغير ذلك. بخلاف غيره، فإنه لا يخلو نكاحه من وجوب مهر: إما مسمى، وإما مهر المثل.

                                                                                                                              وفي انعقاد نكاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بلفظ "الهبة" وجهان; أحدهما: ينعقد. لظاهر الآية، ولهذا الحديث. [ ص: 228 ] والثاني: لا ينعقد; إلا بلفظ "التزويج" أو "الإنكاح"، كغيره من الأمة. والمراد "بالهبة": أنه لا مهر، لأجل العقد بلفظ: "الهبة".

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: ينعقد نكاح كل أحد، بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد.

                                                                                                                              (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر فيها وصوبه) . بتشديد العين والواو فيهما. أي: رفع وخفض. (ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه) . وفيه: دليل لجواز النظر، لمن أراد أن يتزوج امرأة، وتأمله إياها. وفيه: استحباب عرض المرأة نفسها، على الرجل الصالح ليتزوجها.

                                                                                                                              وفيه: أنه يستحب لمن طلبت منه حاجة، لا يمكنه قضاؤها: أن يسكت سكوتا، يفهم السائل منه ذلك. ولا يخجله بالمنع، إلا إذا لم يحصل الفهم إلا بصريح المنع فيصرح.

                                                                                                                              قال الخطابي: وفيه: جواز نكاح المرأة، من غير أن تسأل: هل هي في عدة أم لا؟ حملا على ظاهر الحال.

                                                                                                                              قال: وعادة الحكام، يبحثون عن ذلك احتياطا.

                                                                                                                              قال الشافعي: لا يزوج القاضي، من جاءته لطلب الزواج، حتى يشهد عدلان: أنه ليس لها ولي خاص، وليست في زوجية ولا عدة.

                                                                                                                              [ ص: 229 ] وهذا استحباب واحتياط، وليس بشرط على الأصح.

                                                                                                                              (فلما رأت المرأة: أنه لم يقض فيها شيئا جلست. فقام رجل من أصحابه) .

                                                                                                                              قال الحافظ: لم أقف على اسمه. ووقع في رواية للطبراني: "فقام رجل، أحسبه من الأنصار".

                                                                                                                              (فقال: يا رسول الله ! إن لم تكن لك بها حاجة، فزوجنيها. فقال: "هل عندك من شيء؟ فقال: لا. والله ! يا رسول الله ! فقال: "اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئا؟" فذهب ثم رجع، فقال: لا. والله ! ما وجدت شيئا. فقال رسول الله: "انظر ولو خاتم من حديد".

                                                                                                                              هكذا هو في النسخ، "خاتم " من حديد. وفي بعض النسخ: " خاتما"

                                                                                                                              قال النووي : وهذا واضح. والأول صحيح أيضا. أي: ولو حضر خاتم.

                                                                                                                              وقال في النيل: "بالرفع"، على تقدير: حصل. "ولو" تعليلية. قال عياض : ووهم من زعم خلاف ذلك.

                                                                                                                              ووقع في رواية: عند الحاكم، والطبراني، من حديث سهل: "زوج رجلا بخاتم من حديد، فصه فضة". انتهى. [ ص: 230 ] وفيه: أنه يستحب: أن لا ينعقد النكاح إلا بصداق، لأنه أقطع للنزاع، وأنفع للمرأة; من حيث إنه لو حصل طلاق قبل الدخول، وجب نصف المسمى.

                                                                                                                              فلو لم يكن تسمية: لم يجب صداق، بل تجب المتعة.

                                                                                                                              فلو عقد النكاح بلا صداق: صح. قال تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } . فهذا، تصريح بصحة النكاح والطلاق، من غير مهر. ثم يجب لها المهر.

                                                                                                                              وهل يجب بالعقد أم بالدخول؟ فيه: خلاف مشهور. والأصح: بالدخول. وهو ظاهر هذه الآية.

                                                                                                                              قال في السيل الجرار: لم يرد ما يدل على أن المهر، شرط من شروط العقد، أو ركن من أركانه. وأما قوله سبحانه: { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } ، فالمراد: أن المهر واجب للمنكوحة، لا يجوز مطلها منه. ولو كان العقد لا يصح إلا بالمهر، لم يقل الله عز وجل: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } ....الخ. [ ص: 231 ] فإن هذه الآية، تفيد: أن العقد قد يقع قبل فرض المهر.

                                                                                                                              ويؤيد هذا، ما أخرجه أبو داود وابن ماجه، من حديث عائشة: (قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن أدخل امرأة على زوجها، قبل أن يعطيها شيئا) . قال البيهقي: وصله شريك، وأرسله غيره.

                                                                                                                              ومثله ما أخرجه أبو داود، من حديث عقبة بن عامر: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، زوج امرأة من رجل ممن شهد بدرا، ولم يفرض لها صداقا) الحديث.

                                                                                                                              [ ص: 232 ] قال: وأما حديث: (أين درعك الحطمية؟) ، وفي رواية: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منعه حتى يعطيها شيئا) : فليس فيه ذكر المهر. ولا أن هذا من المهر. وإلا لزم: أن لا يحل الدخول إلا بعد تسليم المهر، أو تسليم شيء منه. وهو خلاف الإجماع. انتهى.

                                                                                                                              قال النووي : وفي هذا الحديث: أنه يجوز أن يكون الصداق قليلا وكثيرا، مما يتمول. إذا تراضى به الزوجان. لأن خاتم الحديد، في نهاية من القلة.

                                                                                                                              قال: وهذا مذهب الشافعي. وهو مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف. وبه قال ربيعة، وأبو الزناد، وابن أبي ذئب، ويحيى بن سعيد، والليث بن سعد، والثوري، والأوزاعي، ومسلم بن خالد الزنجي، وابن أبي ليلى، وداود، وفقهاء أهل الحديث، وابن وهب من أصحاب مالك.

                                                                                                                              قال عياض : هو مذهب العلماء كافة، من الحجازيين، والبصريين، [ ص: 233 ] والكوفيين، والشاميين، وغيرهم: أنه يجوز ما تراضى به الزوجان، من قليل وكثير: كالسوط، والنعل، وخاتم الحديد، ونحوه.

                                                                                                                              وقال مالك: أقله: "ربع دينار"، كنصاب السرقة. قال عياض : هذا مما تفرد به مالك.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله: "عشر دراهم".

                                                                                                                              وقال ابن شبرمة: أقله: "خمسة دراهم"، اعتبارا بنصاب القطع في السرقة عندهما. وكره النخعي: أن يتزوج بأقل من أربعين درهما. وقال مرة: " عشرة ".

                                                                                                                              قال النووي : وهذه المذاهب "سوى مذهب الجمهور": مخالفة للسنة.

                                                                                                                              وهم محجوجون بهذا الحديث، الصحيح الصريح. انتهى.

                                                                                                                              قال عياض : الإجماع; على أن مثل الشيء الذي لا يتمول، ولا له قيمة: لا يكون صداقا. ولا يحل به النكاح. قال في النيل: فإن ثبت نقله، فقد خرق هذا الإجماع: أبو محمد بن حزم، فقال: يجوز بكل شيء، ولو كان حبة من شعير.

                                                                                                                              قال: ويؤيد ما ذهب إليه الكافة، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "التمس ولو خاتما من حديد". لأنه أورده مورد التقليل، بالنسبة لما فوقه. ولا شك أن الخاتم من الحديد له قيمة. وهو أعلى خطرا من النواة، وحبة من الشعير. [ ص: 234 ] قال الحافظ: وقد وردت أحاديث، في أقل الصداق، لا يثبت منها شيء.

                                                                                                                              قال: وأقوى شيء في ذلك: حديث جابر عند مسلم: "كنا نستمتع بالقبضة: من التمر، والدقيق، على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ". انتهى.

                                                                                                                              قال النووي : وفي هذا الحديث: جواز اتخاذ خاتم الحديد. وفيه خلاف للسلف، حكاه عياض . ولنا فيه وجهان; أصحهما: لا يكره. لأن الحديث في النهي عنه ضعيف. قال:

                                                                                                                              وقد أوضحت المسألة، في شرح المهذب.

                                                                                                                              قال: وفيه: استحباب تعجيل المهر إليها. (فذهب، ثم رجع فقال: لا. والله! يا رسول الله! ولا خاتما من حديد) .

                                                                                                                              فيه: جواز الحلف، من غير استحلاف ولا ضرورة. قال الشافعية: يكره من غير حاجة. وهذا كان محتاجا ليؤكد قوله. وفيه. جواز تزويج المعسر، وتزوجه.

                                                                                                                              (ولكن هذا إزاري، - قال سهل: ما له رداء - فلها نصفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته، لم يكن عليها منه شيء. وإن لبسته، لم يكن عليك منه شيء) . [ ص: 235 ] فيه: دليل على نظر كبير القوم في مصالحهم. وهدايته إياهم إلى ما فيه الرفق بهم.

                                                                                                                              وفيه: جواز لبس الرجل ثوب امرأته، إذا رضيت، أو غلب على ظنه رضاها. وهو المراد في هذا الحديث.

                                                                                                                              (فجلس الرجل، حتى إذا طال مجلسه. قام. فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي له. فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن؟" قال: معي سورة كذا، وسورة كذا: "عددها". فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. قال: "اذهب، فقد ملكتها بما معك من القرآن".

                                                                                                                              هكذا هو في معظم النسخ. وكذا نقله عياض عن رواية الأكثرين:

                                                                                                                              بضم الميم وكسر اللام المشددة. على ما لم يسم فاعله.

                                                                                                                              وفي بعض النسخ: "ملكتكها"، بكافين. وكذا رواه البخاري. وفي الرواية الأخرى: "زوجتكها".

                                                                                                                              قال عياض : قال الدارقطني: رواية من روى "ملكتها" وهم. والصواب رواية من روى: " زوجتكها ". قال: وهم أكثر، وأحفظ.

                                                                                                                              قال النووي : ويحتمل صحة اللفظين. ويكون جرى لفظ التزويج أولا، فملكها. ثم قال: اذهب فقد ملكتها، بالتزويج السابق.

                                                                                                                              قال: وفي هذا الحديث: دليل لجواز كون الصداق، تعليم القرآن. وجواز: الاستئجار لتعليم القرآن. وكلاهما جائز عند الشافعي. [ ص: 236 ] وبه قال عطاء، والحسن بن صالح، ومالك، وإسحاق، وغيرهم. ومنعه جماعة، منهم: الزهري، وأبو حنيفة.

                                                                                                                              وهذا الحديث، مع الحديث الصحيح: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا: كتاب الله"، يردان قول من منع ذلك.

                                                                                                                              ونقل عياض : جواز الاستئجار لتعليم القرآن، عن العلماء كافة، سوى أبي حنيفة "رحمه الله". انتهى.

                                                                                                                              قال في النيل: الحديث، يدل على جواز جعل المنفعة صداقا، ولو كانت تعليم القرآن.

                                                                                                                              قال: وفي الحديث أكثر من ثلاثين فائدة، ذكرها في "الفتح"

                                                                                                                              فمن أحب الوقوف على ذلك، فليرجع إليه.




                                                                                                                              الخدمات العلمية