الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الباب الخامس

                          ( في شئون الكفار والمنافقين وحكم الإسلام عليهم وسياسته فيهم وفيه فصول )

                          ( الفصل الأول في ذم القرآن للكفار والمنافقين ونزاهته فيه عن السب والشتم )

                          ( تنبيه وتمهيد )

                          الذم : الوصف بالقبيح ، والسب والشتم : ما يقصد به التعيير والتشفي من الذم ، سواء كان معناه صحيحا واقعا أو إفكا مفترى . والقرآن منزه عن ذلك ، قال تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) ( 6 : 108 ) فنهي عن سب آلهة الكفار ومعبوداتهم ومنها الأصنام ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( المتسبان شيطانان يتهاتران [ ص: 106 ] ويتكاذبان ) ) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث عياض بن حماد بسند صحيح .

                          فما في القرآن من ذم الكفار والمنافقين بيان لحقيقة حالهم وقبح أعمالهم ، وما يعقبها من الفساد والضرر بهم وسخط الله تعالى عليهم ، واستحقاقهم لعقابه ، وبعدهم من رحمته وثوابه ؛ بقصد الإنذار والوعظ ، لأجل التنفير والزجر ، ولذلك تراها موجهة إليهم بوصفهم أو إلى وصفهم العام : المشركين ، الكافرين ، المنافقين ، الفاسقين ، الظالمين ، المجرمين ، المفسدين ، أو الخاص بطائفة منهم كبعض الأحبار والرهبان لا كلهم دون الأشخاص المعينين بأسمائهم وألقابهم ، مهما يكن من شدة كفرهم وإيذائهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين كعبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين الذي كان شرهم وأجرأهم على الضرر ، فقد كان ضرره في المدينة أشد من ضرر أئمة الكفر والشرك في مكة ( كأبي جهل ) .

                          ومن اطلع على شيء من هجاء العرب وسبابهم البذيء وقذعهم الفاحش أدرك نزاهة القرآن ، وعلوه عن مثل بذاءتهم في الكلام .

                          يستثنى من هذه القضية الكلية في ذم الشخص المعين من أعداء الإسلام والرسول - صلى الله عليه وسلم - ما نزل في ذم أبي لهب وامرأته في سورة وجيزة لما بيناه من حكمة ذلك في قصة إبراهيم مع أبيه آزر والاستطراد إلى آباء الأنبياء وأولي قرباهم وما صح في الأحاديث في أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - وعميه أبي طالب وأبي لهب ، لإثبات قاعدة عظيمة في الفرق بين دين الله تعالى على ألسنة أنبيائه ورسله والأديان الوثنية ، وهي أن دين الله تعالى مبني على أن مدار السعادة والنجاة من عذاب الآخرة والفوز بنعيمها إنما هو الإيمان الصحيح والأعمال الصالحة التي تتزكى بها الأنفس وتكون بصفاتها العالية أهلا لجوار الله تعالى ومرضاته .

                          وأن الأديان الوثنية مبنية على أن السعادة والنجاة والفوز إنما تكون بوساطة بعض المخلوقات التي توصف بالولاية والقداسة أو النبوة ، ويدعى لها التأثير في النفع والضر بأنفسهما أو بالشفاعة عند الله تعالى ، وكونها تحابي بشفاعتها ووساطتها أولي القرابة منها والمتقربين إليها بالمدح لها والاستغاثة بها ، ودعائها من دون الله أو مع الله عز وجل .

                          وقد كان أبو لهب أغنى بني هاشم ، ومن أكثر المشركين غرورا بماله وثروته ونشبه ونسبه وكان بهذا الغرور أول من جاهر بعداوة ابن أخيه ( محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ) محتقرا له لأنه كان هو وأبوه ، الذي لم يدركه ، وعمه الذي كفله بعد جده - أفقر بني هاشم ، وقال له حين جمع عشيرته وبلغهم دعوة ربه امتثالا لأمره ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ( 26 : 214 ) [ ص: 107 ] : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ وكان يقول لقريش : خذوا على يديه ، قبل أن تجتمع العرب عليه ، وكان أشد المشركين صدا للناس عنه وتكذيبا له كلما دعا أحدا منهم إلى الإسلام ، وكان كلامه مقبولا عندهم أكثر من كلام سائر الرؤساء الذين جاهروا بعداوته كأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأبي سفيان بن حرب لقرابته ، وكذلك كانت امرأته أم جميل أخت أبي سفيان مسرفة في عداوته وذمه ، والصد عن دعوته بالنميمة ونقل الأخبار الكاذبة عنه لتبغيضه للناس ، وهو المراد من كنيتها : ( حمالة الحطب ) كما هو معروف عند العرب . وروي أنها كانت تجمع الحطب الشائك وتلقيه في طريقه بالفعل ، ومع هذا كله لم تكن السورة التي نزلت فيه إلا دعاء عليه بالتبات ، وهو الخسار المفضي إلى الهلاك أو إخبارا به ، وبكونه لا يغني عنه ماله الكثير وما كسبه من الجاه والولد شيئا - في مقابلة قوله للرسول - صلى الله عليه وسلم - تبا لك سائر اليوم - فهو إخبار بعاقبة أمرهما وموتهما على كفرهما ، وخسرانهما سعادة الدنيا والآخرة ، وقد صدق خبر الله ووعيده له ، فهو قد مات بعد وقعة بدر التي ساعد عليها بماله ، آسفا لعجزه عن الخروج إليها بنفسه ، فذاق وبال أمره بخذلان أقرانه من صناديد قريش ورءوس الشرك ، وخسران ماله الذي أنفقه فيها مصداقا لقوله تعالى : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) ( 8 : 36 ) ورأى بمصداقها مبادئ عز الإسلام ونصره . مات بعدها بأيام قليلة بالعدسة شر ميتة ، وترك ميتا حتى أنتن ، ثم استؤجر بعض السودان حتى دفنوه . وكان فجع بعد نزول السورة بولده عتبة الذي كان يعتز به ، افترسه أسد في طريق الشام ، ولو أسلم كما أسلم أخوه وثانيه في جمع المال العباس - رضي الله عنه - لرأى مثل ما رأى هو وذريته من عز الإسلام ، وصدق ابن أخيه عليه أفضل الصلاة والسلام ، في وعده لهم بأن كلمة : ( ( لا إله إلا الله ) ) تجمع عليهم العرب ، وتدين لهم بها العجم .

                          ذكرت هذا التنبيه الطويل لبيان غلط بعض العلماء في قولهم : إن القرآن اشتمل على سبهم وسب آلهتهم ، وتفنيدا لما يهذي به بعض ملاحدة الكتاب في المقارنة بين أدبه والأدب الجاهلي . وما روي من قول رءوس المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد سببت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة ، فذكر السب والشتم فيه مبالغة في الإنكار ، على أنه مرسل ضعيف السند وفيه رجل متهم . وهاك ما وصف الله تعالى به أعداءه وأعداء رسوله والمؤمنين من هؤلاء المنافقين والكافرين في هذه السورة وهو أشده .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية