الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          165 - مسألة : ومس الرجل المرأة والمرأة الرجل بأي عضو مس أحدهما الآخر ، إذا كان عمدا ، دون أن يحول بينهما ثوب أو غيره ، سواء أمه كانت أو ابنته ، أو مست ابنها أو أباها ، الصغير والكبير سواء ، لا معنى للذة في شيء من ذلك وكذلك لو مسها على ثوب للذة لم ينتقض وضوءه ، وبهذا يقول الشافعي وأصحاب الظاهر .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك قول الله تبارك وتعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } . قال أبو محمد : والملامسة فعل من فاعلين ، وبيقين ندري أن الرجال والنساء مخاطبون بهذه الآية ، لا خلاف بين أحد من الأمة في هذا لأن أول الآية وآخرها عموم للجميع من الذين آمنوا ، فصح أن هذا الحكم لازم للرجال إذا لامسوا النساء ، [ ص: 228 ] والنساء إذا لامسن الرجال ، ولم يخص الله تعالى امرأة من امرأة ، ولا لذة من غير لذة ، فتخصيص ذلك لا يجوز ، وهو قول ابن مسعود وغيره . وادعى قوم أن اللمس المذكور في هذه الآية هو الجماع .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا تخصيص لا برهان عليه ، ومن الباطل الممتنع أن يريد الله عز وجل لماسا من لماس فلا يبينه . نعوذ بالله من هذا .

                                                                                                                                                                                          قال علي : واحتج من رأى اللماس المذكور في هذه الآية هو الجماع بحديث فيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل ولا يتوضأ } وهذا حديث لا يصح ; لأن راويه أبو روق وهو ضعيف ، ومن طريق رجل اسمه عروة المزني ، وهو مجهول ، رويناه من طريق الأعمش عن أصحاب له لم يسمهم عن عروة المزني ، وهو مجهول ولو صح لما كان لهم فيه حجة لأن معنى هذا الخبر منسوخ بيقين لأنه موافق لما كان الناس عليه قبل نزول الآية ، ووردت الآية بشرع زائد لا يجوز تركه ولا تخصيصه .

                                                                                                                                                                                          وذكروا أيضا حديثين صحيحين : أحدهما من طريق عائشة أم المؤمنين { التمست رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل فلم أجده ، فوقعت يدي على باطن قدمه وهو ساجد } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الوضوء إنما هو على القاصد إلى اللمس ، لا على الملموس دون أن يقصد هو إلى فعل الملامسة ; لأنه لم يلامس ، ودليل آخر ، وهو أنه ليس في هذا الخبر أنه عليه السلام كان في صلاة ، وقد يسجد [ ص: 229 ] المسلم في غير صلاة ، لأن السجود فعل خير ، وحتى لو صح لهم أنه عليه السلام كان في صلاة - وهذا ما لا يصح - فليس في الخبر أنه عليه السلام لم ينتقض وضوءه ، ولا أنه صلى صلاة مستأنفة دون تجديد وضوء ، فإذا ليس في الخبر شيء من هذا فلا متعلق لهم به أصلا . ثم لو صح أنه عليه السلام كان في صلاة ، وصح أنه عليه السلام تمادى عليها أو صلى غيرها دون تجديد وضوء - وهذا كله لا يصح أبدا - فإنه كان يكون هذا الخبر موافقا للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية بلا شك ، وهي حال لا مرية في نسخها وارتفاع حكمه بنزول الآية ، ومن الباطل الأخذ بما قد تيقن نسخه وترك الناسخ ، فبطل أن يكون لهم متعلق بهذا الخبر . والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          والخبر الثاني من طريق أبي قتادة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت أبي العاص - وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عاتقه يضعها ، إذا سجد ، ويرفعها إذا قام } قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه أصلا لأنه ليس فيه نص أن يديها ورجليها لمست شيئا من بشرته عليه السلام ، إذ قد تكون موشحة برداء أو بقفازين وجوربين ، أو يكون ثوبها سابغا يواري يديها ورجليها ، وهذا الأولى أن يظن بمثلها بحضرة الرجال ، وإذا لم يكن ما ذكرنا في الحديث فلا يحل لأحد أن يزيد فيه ما ليس فيه ، فيكون كاذبا ، وإذا كان ما ظنوا ليس في الخبر وما قلنا ممكنا ، والذي لا يمكن غيره ، فقد بطل تعلقهم به ، ولم يحل ترك الآية المتيقن وجوب حكمها لظن كاذب ، وقال تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } .

                                                                                                                                                                                          وأيضا فإن هذا الخبر والذي قبله ليس فيهما أيهما كان بعد نزول الآية ، والآية متأخرة النزول ، فلو صح أنه عليه السلام مس يديها ورجليها في الصلاة لكان موافقا للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية ، وعلى كل حال فنحن على يقين من أن معنى هذا الخبر - لو صح لهم كما يريدون - فإنه منسوخ بلا شك ولا يحل الرجوع إلى المتيقن أنه منسوخ وترك الناسخ . فصح أنهم يوهمون بأخبار لا متعلق لهم بشيء منها ، يرومون بها ترك اليقين من القرآن والسنن .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : لا ينقض الوضوء قبلة ولا ملامسة للذة كانت أو لغير لذة ، ولا [ ص: 230 ] أن يقبض بيده على فرجها كذلك ، إلا أن يباشرها بجسده دون حائل وينعظ فهذا وحده ينقض الوضوء . وقال مالك : لا وضوء من ملامسة المرأة الرجل ، ولا الرجل المرأة ، إذا كانت لغير شهوة ، تحت الثياب أو فوقها ، فإن كانت الملامسة للذة فعلى الملتذ منهما الوضوء سواء كان فوق الثياب أو تحتها ، أنعظ أو لم ينعظ ، والقبلة كالملامسة في كل ذلك ، وهو قول أحمد بن حنبل . وقال الشافعي كقولنا ، إلا أنه روي عنه أن مس شعر المرأة خاصة لا ينقض الوضوء .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد أما قول أبي حنيفة فظاهر التناقض ، ولا يمكنه التعلق بالتأويل الذي تأوله قوم في الآية : إن الملامسة المذكورة فيها هو الجماع فقط لأنه أوجب الوضوء من المباشرة إذا كان معها إنعاظ ، وأما مناقضته فتفريقه بين القبلة يكون معها إنعاظ فلا ينقض الوضوء . وبين المباشرة يكون معها إنعاظ فتنقض الوضوء ، وهذا فرق لم يؤيده قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل هو مخالف لكل ذلك ، ومن مناقضاته أيضا أنه جعل القبلة لشهوة واللمس لشهوة بمنزلة القبلة لغير الشهوة ، واللمس لغير الشهوة لا ينقض الوضوء شيء من ذلك ، ثم رأى أن القبلة لشهوة واللمس لشهوة رجعة في الطلاق ، بخلاف القبلة لغير شهوة واللمس لغير شهوة ، وهذا كما ترى لا اتباع القرآن ، ولا التعلق بالسنة ولا طرد قياس ولا سداد رأي ولا تقليد صاحب ، ونسأل الله التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قول مالك في مراعاة الشهوة واللذة ، فقول لا دليل عليه لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا ضبط قياس ولا احتياط ، وكذلك تفريق الشافعي بين الشعر وغيره ، فقول لا يعضده أيضا قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل هو خلاف ذلك كله ، وهذه الأقوال الثلاثة كما أوردناها لم نعرف أنه قال بها أحد قبلهم ، وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : قد رويتم عن النخعي والشعبي : إذا قبل أو لمس لشهوة فعليه الوضوء وعن حماد : أي الزوجين قبل صاحبه والآخر لا يريد ذلك ، فلا وضوء على الذي لا يريد ذلك ، إلا أن يجد لذة ، وعلى القاصد لذلك الوضوء . قلنا : قد صح عن الشعبي والنخعي وحماد إيجاب الوضوء من القبلة على القاصد بكل حال ، وإذ ذلك كذلك [ ص: 231 ] فاللذة داخلة في هذا القول ، وبه نقول ، وليس ذلك قول مالك . والعجب أن مالكا لا يرى الوضوء من الملامسة إلا حتى يكون معها شهوة ، ثم لا يرى الوضوء يجب من الشهوة دون ملامسة فكل واحد من المعنيين لا يوجب الوضوء على انفراده فمن أين له إيجاب الوضوء عند اجتماعهما ؟

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية