الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                : ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما صفة الإعتاق فهي أن الإعتاق هل يتجزأ أم لا ؟ وقد اختلف فيه قال أبو حنيفة : يتجزأ سواء كان المعتق موسرا أو معسرا ، وقال أبو يوسف ومحمد : لا يتجزأ كيف ما كان المعتق ، وقال الشافعي : إن كان معسرا يتجزأ ، وإن كان موسرا لا يتجزأ ، والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم ، قال بعضهم فيمن أعتق نصف عبد بينه وبين غيره : إنه يعتق نصفه ويبقى الباقي رقيقا ، يجب تخريجه إلى العتاق وهو مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال بعضهم : يعتق كله وليس للشريك إلا الضمان ، وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما : عتق ما عتق ورق ما رق هما احتجا بالنص والمعقول والأحكام ، أما النص : فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : من أعتق شقصا له من عبد ، عتق كله ليس لله فيه شريك } وهذا نص على عدم التجزي ، وفي رواية : من أعتق شركا له في عبد ، فقد عتق كله ليس لله فيه شريك .

                                                                                                                                وأما المعقول : فهو أن العتق في العرف اسم لقوة حكمية دافعة يد الاستيلاء ، والرق اسم لضعف حكمي يصير به الآدمي محلا للتملك فيعتبر الحكمي بالحقيقي ، وثبوت القوة الحقيقية والضعف الحقيقي في النصف شائعا مستحيل فكذا الحكمي ; ولأن للعتق آثارا من المالكية والولاية والشهادة والإرث ونحوها ، وثبوت هذه الآثار لا يحتمل التجزي ; ولهذا لم يتجزأ في حال الثبوت حتى لا يضرب الإمام الرق في أنصاف السبايا ويمن عليهم بالإنصاف ، كذا في حالة البقاء .

                                                                                                                                وأما الأحكام : فإن إعتاق النصف قد تعدى إلى النصف الباقي في الأحكام ، حتى امتنع جواز التصرفات الناقلة للملك فيه من البيع والهبة والصدقة والوصية عند أصحابنا ، وكذا يجب تخريجه إلى عتق الكل بالضمان أو بالسعاية ، حتى يجبره القاضي على ذلك ، وهذا من آثار عدم التجزي ، وكذا الاستيلاد لا يتجزأ حتى لو استولد جارية بينه وبين شريكه وادعاه ، تصير كلها أم ولد له بالضمان ، ومعلوم أن الاستيلاد يوجب حق الحرية لا حقيقة الحرية ، فالحق إذا لم يتجزأ فالحقيقة أولى ، وكذا لو عتق نصف أم ولده أو أم ولد بينه وبين شريكه ، عتق كلها ، وإذا لم يكن الإعتاق متجزئا لم يكن المحل في حق العتق متجزئا ، وإضافة التصرف إلى بعض ما لا يتجزأ في حقه يكون إضافة إلى الكل ، كالطلاق والعفو عن القصاص ، والله أعلم .

                                                                                                                                ولأبي حنيفة النصوص والمعقول والحكم ، أما النص : فما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : من أعتق نصيبا له من مملوك ، كلف عتق بقيته ، وإن لم يكن عنده ما يعتقه فيه ، جاز ما صنع } .

                                                                                                                                وروي : كلف عتق ما بقي ، وروي : وجب عليه أن يعتق ما بقي ، وذلك كله نص على التجزي ; لأن تكليف عتق الباقي لا يتصور بعد ثبوت العتق في كله ، وقوله صلى الله عليه وسلم : جاز ما صنع ، إشارة إلى عتق البعض إذ هو الذي صنعه لا غير .

                                                                                                                                وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : من أعتق شركا له في عبد ، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ، وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا عتق ما عتق } والحديث يدل على تعلق عتق الباقي بالضمان إذا كان المعتق موسرا ، وعلى عتق البعض إن كان معسرا ، فيدل على التجزي في حالة اليسار والإعسار .

                                                                                                                                وروي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه [ ص: 87 ] قال { : من كان له شقص في مملوك فأعتقه فعليه خلاصه من ماله إن كان له مال ، وإن لم يكن له مال استسعى العبد في رقبته غير مشقوق عليه } وفي رواية { : من أعتق شقصا له من مملوك فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال ، وإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه } وأما المعقول : فهو أن الإعتاق إن كان تصرفا في الملك والمالية بالإزالة ، فالملك متجزئ وكذا المالية بلا شك ، حتى تجري فيه سهام الورثة ويكون مشتركا بين جماعة كثيرة من الغانمين وغيرهم ، وإن كان تصرفا في الرق فالرق متجزئ أيضا ; لأن محله متجزئ وهو العبد وإذا كان محله متجزئا ، كان هو متجزئا ضرورة .

                                                                                                                                وأما حكم الاثنين إذا أعتقا عبدا مشتركا بينهما ، كان الولاء بينهما نصفين والولاء من أحكام العتق فدل تجزؤه على تجزؤ العتق ، وأما الحديث : فقد قيل : إنه غير مرفوع بل هو موقوف على عمر رضي الله عنه وقد روي عنه خلافه ، فإنه روي أنه قال في عبد بين صبي وبالغ أعتق البالغ نصيبه قال : ينتظر بلوغ الصبي ، فإذا بلغ إن شاء أعتق وإن شاء استسعى ، ولئن ثبت رفعه فتأويله من وجهين : أحدهما أن معنى قوله : عتق كله أي : استحق عتق كله ; لأنه يجب تخريج الباقي إلى العتق لا محالة فيعتق الباقي لا محالة بالاستسعاء أو بالضمان ، وما كان مستحق الوجود يسمى باسم الكون والوجود قال الله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } والثاني أنه يحتمل أن المراد منه عتق كله للحال ، ويحتمل أن المراد منه عتق كله عند الاستسعاء والضمان ، فنحمله على هذا عملا بالأحاديث كلها .

                                                                                                                                وأما قولهما : إن العتق قوة حكمية فيعتبر بالقوة الحقيقية وثبوتها في البعض شائعا ممتنع ، فكذا الحكمية ، فنقول : لم قلتم : إن اعتبار الحكم بالحقيقة لازم ؟ أليس أن الملك عبارة عن القدرة الحكمية والقوة والقدرة سواء ، ثم الملك يثبت في النصف شائعا وهذا ; لأن الأمر الشرعي يعرف بدليل الشرع وهو النص والاستدلال لا بالحقائق ، وما ذكر من الآثار فليست من لوازم العتق .

                                                                                                                                ألا ترى أنه يتصور ثبوت العتق بدونها كما في الصبي والمجنون ، بل هي من الثمرات وفوات الثمرة لا يخل بالذات ، ثم إنها من ثمرات حرية كل الشخص لا من ثمرات حرية البعض .

                                                                                                                                فإن الولايات والشهادات شرعت قضاء حق العاجزين ; شكرا لنعمة القدرة ، وذلك عند كمال النعمة وهو أن ينقطع عنه حق المولى ليصل إلى إقامة حقوق الغير ، وقولهما : لا يتجزأ ثبوته كذا زواله من مشايخنا من منع وقال : إن الإمام إذا ظهر على جماعة من الكفرة وضرب الرق على أنصافهم ومن على الأنصاف جاز ، ويكون حكمهم حكم معتق البعض في حالة البقاء ، ثم إن سلمنا ، فالرق متجزئ في نفسه حالة الثبوت ، لكنه تكامل لتكامل سببه وهو الاستيلاء إذ لا يتصور وروده على بعض المحل دون بعض ، وفي حالة البقاء وجود سبب زواله كاملا وقاصرا فيثبت كاملا وقاصرا على حسب السبب .

                                                                                                                                وأما التخريج إلى الإعتاق وامتناع جواز التصرفات فليس لعدم التجزؤ بل لمعنى آخر نذكره إن شاء الله تعالى وأما الاستيلاد ، فممنوع ; أنه لا يتجزأ بل هو متجزئ ، فإن الأمة المشتركة بين اثنين إذا جاءت بولد فادعياه جميعا ، صارت أم ولد لهما ، إلا أنه إذا ادعى أحدهما ، صارت كلها أم ولد له ; لوجود سبب التكامل وهو نسبة كل أم الولد إليه بواسطة الولد على ما نذكره في كتاب الاستيلاد وما من متجزئ إلا وله حال الكمال إذا وجد السبب بكمال يتكامل ، وإذا وجد قاصرا ، لا يتكامل بل يثبت بقدره ، وفي مسألتنا وجد قاصرا فلم يتكامل ، وكذا إعتاق أم الولد متجزئ والثابت له عتق النصف ، وإنما يثبت له العتق في النصف الباقي لا بإعتاقه ; بل لعدم الفائدة في بقاء نصيب الشريك كما في الطلاق والعفو عن القصاص ، على ما عرف في مسائل الخلاف ، والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية