الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه [ ص: 462 ] خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان " فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه آدم عليه السلام ، وإنما قيل : " من سلالة " ; لأنه استل من كل الأرض ، هذا مذهب سلمان الفارسي ، وابن عباس في رواية ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه ابن آدم ، والسلالة : النطفة استلت من الطين ، والطين : آدم عليه السلام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . قال الزجاج : والسلالة : فعالة ، وهي القليل مما ينسل ، وكل مبني على ( فعالة ) يراد به القليل ، من ذلك : الفضالة ، والنخالة ، والقلامة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ثم جعلناه " يعني : ابن آدم ، " نطفة في قرار " وهو الرحم ، " مكين " ; أي : حريز ، قد هيئ لاستقراره فيه . وقد شرحنا في سورة ( الحج : 5 ) معنى النطفة والعلقة والمضغة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فخلقنا المضغة عظاما " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( عظاما فكسونا العظام ) على الجمع . وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : ( عظما فكسونا العظم ) على التوحيد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ثم أنشأناه خلقا آخر " وهذه الحالة السابعة . قال علي عليه السلام : لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي محل هذا الإنشاء قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه بطن الأم . ثم في صفة الإنشاء قولان : أحدهما : أنه نفخ [ ص: 463 ] الروح فيه ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية ، والشعبي ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك في آخرين . والثاني : أنه جعله ذكرا أو أنثى ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني : أنه بعد خروجه من بطن أمه . ثم في صفة هذا الإنشاء أربعة أقوال : أحدها : أن ابتداء ذلك الإنشاء أنه استهل ، ثم دل على الثدي ، وعلم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن مشى ، إلى أن فطم ، إلى أن بلغ الحلم ، إلى أن تقلب في البلاد ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثاني : أنه استواء الشباب ، قاله ابن عمر ومجاهد . والثالث : أنه خروج الأسنان والشعر ، قاله الضحاك ، فقيل له : أليس يولد وعلى رأسه الشعر ؟ فقال : وأين العانة والإبط ؟ والرابع : أنه إعطاء العقل والفهم ، حكاه الثعلبي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فتبارك الله " ; أي : استحق التعظيم والثناء . وقد شرحنا معنى " تبارك " في ( الأعراف : 54 ) . " أحسن الخالقين " ; أي : المصورين والمقدرين ، والخلق في اللغة : التقدير . وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وعنده عمر ، إلى قوله تعالى : " خلقا آخر " ، فقال عمر : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد ختمت بما تكلمت به يابن الخطاب " .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : " أحسن الخالقين " وقوله : هل من خالق غير الله [ فاطر : 3 ] ؟ [ ص: 464 ]

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب : أن الخلق يكون بمعنى الإيجاد ، ولا موجد سوى الله ، ويكون بمعنى التقدير ، كقول زهير :


                                                                                                                                                                                                                                      [ ولأنت تفري ما خلقت ] وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري



                                                                                                                                                                                                                                      فهذا المراد هاهنا ، أن بني آدم قد يصورون ويقدرون ويصنعون الشيء ، فالله خير المصورين والمقدرين . وقال الأخفش : الخالقون هاهنا هم الصانعون ، فالله خير الخالقين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ثم إنكم بعد ذلك " ; أي : بعد ما ذكر من تمام الخلق ، " لميتون " عند انقضاء آجالكم . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وعكرمة ، وابن أبي عبلة : ( لمائتون ) بألف . قال الفراء : والعرب تقول لمن لم يمت : إنك مائت عن قليل ، وميت ، ولا يقولون للميت الذي قد مات : هذا مائت ، إنما يقال في الاستقبال فقط ، وكذلك يقال : هذا سيد قومه اليوم ، فإذا أخبرت أنه يسودهم عن قليل ، قلت : هذا سائد قومه عن قليل ، وكذلك هذا شريف القوم ، وهذا شارف عن قليل ، وهذا الباب كله في العربية على ما وصفت لك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية