الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون عطف حالة من أحوال كفرهم لها مساس بما أنعم الله عليهم من النعمة ، فهي معطوفة على جملة وما بكم من نعمة فمن الله ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى وما بكم من نعمة على طريق الالتفات ، ويجوز أن تكون معطوفة على ( يشركون ) من قوله تعالى إذا فريق منكم بربهم يشركون .

وما حكي هنا هو تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم ، والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربهم ، إذ جعلوا في أموالهم حقا للأصنام التي لم ترزقهم شيئا ، وقد مر ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا .

إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله ; لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النعمة ، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم ، وإن كان كل ذلك منكرا عليهم ، إلا أن بعض الكفر أشد من بعض .

والجعل : التصيير والوضع ، تقول : جعلت لك في مالي كذا ، وجيء هنا بصيغة المضارع للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره ، بخلاف قوله تعالى وأقسموا بالله بأنه حكاية قضية مضت من عنادهم ، وجدالهم في أمر البعث .

[ ص: 181 ] ومفعول يعلمون محذوف لظهوره ، وهو ضمير ( ما ) ، أي لا يعلمونه ، ومثل حذف هذا الضمير كثير في الكلام .

وماصدق صلة ما لا يعلمون وهو الأصنام ، وإنما عبر عنها بهذه الصلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم ، إذ يفرضون في أموالهم عطاء يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بله مبلغ ما ينالهم منها ، وتخيلات يتخيلونها ليست في الوجود ، ولا في الإدراك ، ولا من الصلاحية للانتفاع في شيء ، كما قال تعالى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، وضمير تعلمون عائد إلى معاد ضمير ( يجعلون ) .

ووصف النصيب بأنه مما رزقناهم لتشنيع ظلمهم ; إذ تركوا المنعم فلم يتقربوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج ، وأنفقوا ذلك في التقرب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئا .

ثم وجه الخطاب إليهم على طريقة الالتفات لقصد التهديد ، ولا مانع من الالتفات هنا ; لعدم وجود فاء التفريع كما في قوله تعالى فتمتعوا .

وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه ، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث ، وهم ينكرونه فناسب أن يؤكد .

والقسم بالتاء يختص بما يكون المقسم عليه أمرا عجيبا ومستغربا ، كما تقدم في قوله تعالى قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض في سورة يوسف ، وسيأتي في قوله تعالى وتالله لأكيدن أصنامكم في سورة الأنبياء ، فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالا عجيبا بمقدار غرابة الجرم المسئول عنه .

والسؤال كناية عما يترتب عليه من العقاب ; لأن عقاب العادل يكون في العرف عقب سؤال المجرم عما اقترفه إذ لعل له ما يدفع به عن نفسه ، [ ص: 182 ] فأجرى الله أمر الحساب يوم البعث على ذلك السنن الشريف ، والتعبير عنه بـ كنتم تفترون كناية عن استحقاقهم العقاب ; لأن الكذب على الله جريمة .

والإتيان بفعل الكون ، وبالمضارع للدلالة على أن الافتراء كان من شأنهم ، وكان متجددا ومستمرا منهم ، فهو أبلغ من أن يقال : عما تفترون ، وعما افتريتم .

التالي السابق


الخدمات العلمية