الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 651 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير [سورة العلق]

وهي مكية بإجماع، وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى، نزل صدرها في غار حراء حسبما ثبت في صحيح البخاري ، وغيره، وروي من طريق جابر بن عبد الله أن أول ما نزل: "يا أيها المدثر"، وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل : إن أول ما نزل فاتحة الكتاب والقول الأول أصح، والترتيب في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك.

قوله عز وجل:

اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب

في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ به [ ص: 652 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه التحنث في غار حراء، فكان يخلو فيه يتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني ثم كذلك ثلاث مرات، فقال له في الثالثة: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق إلى قوله ما لم يعلم، قال فرجع بها رسول الله صلى الله عيه وسلم ترجف بوادره" الحديث بطوله، ومعنى هذه الآية، اقرأ هذا القرآن باسم ربك، أي ابدأ فعلك بذكر اسم الله، كما قال تعالى: وقال اركبوا فيها بسم الله هذا وجه. ووجه آخر في "كتاب الثعلبي " أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو باسم ربك الذي خلق، كأنه قال له: اقرأ هذه اللفظة، ولما ذكر "الرب" وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أربابا جاء بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها، وهي قوله تعالى: "الذي خلق"، ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه، وما يجده كل مفطور في نفسه، فقال تعالى: خلق الإنسان من علق ، وخلقة الإنسان من أعظم العبر حتى أنه ليس في المخلوقات التي لدينا أكثر عبرا منه في عقله وإدراكه ورباطات بدنه وعظامه، والعلق جمع علقة، وهي القطعة اليسيرة من الدم، و"الإنسان" - هنا - اسم الجنس، ويمشي الذهن معه إلى جميع الحيوان، وليست الإشارة إلى آدم عليه السلام، لأنه مخلوق من طين، ولم يكن ذلك مقررا عند المخاطبين بهذه الآية، فلذلك ترك أصل الخلقة وسيق لهم الفرع الذي هم به مقرون تقريبا لأفهامهم.

[ ص: 653 ] ثم قال تعالى له: اقرأ وربك الأكرم على جهة التأنيس، كأنه تعالى يقول: امض لما أمرت به، وربك ليس كهذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص، فهو ينصرك ويظهرك.

ثم عدد تعالى نعمة الكتاب بالقلم على الناس، وهي موضع عبرة وأعظم منفعة في المخاطبات وتخليد المعارف، وقوله تعالى: علم الإنسان ما لم يعلم ، قيل: المراد محمد عليه الصلاة والسلام، وقيل: اسم الجنس، وهو الأظهر، وعدد تعالى نعمه اكتساب المعارف بعد جهله بها.

وقوله تعالى: كلا إن الإنسان الآية.. نزل بعد مدة من شأن أبي جهل بن هشام ، وذلك أنه طغى لغناه، ولكثرة من يغشى ناديه من الناس، فناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة، ونهاه عن الصلاة في المسجد، ويروى أنه قال: لئن رأيت محمدا يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه القول وانتهره، فقال أبو جهل: أيتوعدني محمد والله ما بالوادي أعظم نديا مني؟ وروى أيضا أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وهم بأن يصل إليه ويمنعه من الصلاة، ثم كع عنه وانصرف، فقيل له: ما هذا؟ فقال: لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو دنا مني لأخذته الملائكة عيانا"، فهذه السورة من قوله تعالى: "كلا" إلى آخرها نزلت في أبي جهل. و"كلا" هي رد على أقوال أبي جهل وأفعاله، ويتجه أن تكون بمعنى "حقا"، فهي تثبيت لما بعدها من القول. و"الطغيان" تجاوز الحدود الجميلة، و"الغنى" مطغ إلا من عصم الله تعالى، و"الضمير في "رآه" [ ص: 654 ] للإنسان المذكور، كأنه قال: أن رأى نفسه غنيا، وهي رؤية قلب تقرب من العلم، وكذلك جاز أن يعمل فعل الفاعل في نفسه، كما تقول: وجدتني وظننتني، ولا يجوز أن تقول: ضربتني. وقرأ الجمهور: "أن رآه" بالمد على وزن "رعاه"، واختلفوا في الإمالة وتركها، وقرأ ابن كثير -من طريق قنبل -: "أن رأه"، دون مد، على وزن "رعه"، على حذف لام الفعل، وذلك تخفيف.

ثم حقر تعالى غنى هذا الإنسان وحاله بقوله تعالى: إن إلى ربك الرجعى ، أي الحشر والبعث يوم القيامة، و"الرجعى" مصدر كالرجوع، وهو على وزن العقبى ونحوه، وفي هذا الخبر وعيد للطاغين من الناس.

الناهي أبو جهل، وأن العبد المصلي محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: "أرأيت" توقيف، وهو فعل لا يتعدى إلى مفعولين على حد الرؤية من العلم، بل يقتصر به. وقوله تعالى: ألم يعلم بأن الله يرى إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوقيفات الثلاثة يصلح مع كل واحد منها، فجاء بها في نسق، ثم جاء بالوعيد الكافي لجميعها اختصارا واقتضابا، ومع كل تقرير من الثلاثة تكملة مقدرة تتسع العبارات فيها، وقوله تعالى: "ألم يعلم" دال عليها مغن، وقوله تعالى: "إن كان" يعني العبد المصلي، وقوله تعالى: إن كذب وتولى يعني الإنسان الذي ينهى، ونسب تعالى الرؤية إلى الله تعالى بمعنى: يدرك أعمال الجميع بإدراك سماه رؤية، والله تعالى منزه عن الجارحة وغير ذلك من مماثلة المحدثات، ثم توعده تعالى -إن لم ينته- بأن يؤخذ بناصيته فيجر إلى جهنم ذليلا، تقول العرب: "سفعت بيدي ناصية الفرس، والرجل" إذا جذبتها مذللا له، قال عمرو بن معد يكرب:


قوم إذا سمعوا الصياح رأيتهم ما بين ملجم مهره أو سافع



[ ص: 655 ] فالآية على نحو قوله تعالى: فيؤخذ بالنواصي والأقدام . وقال بعض العلماء: بالتفسير "لنسفعا" معناه: لنحرقن، من قولهم: "سفعته النار" إذا أحرقته، واكتفى بذكر الناصية لدلالتها على الوجه والرأس. وجاء "لنسفعا" في خط المصحف بألف بدل النون، وقرأ أبو عمرو -في رواية هارون-: "لنسفعن" مثقلة النون، وفي مصحف ابن مسعود "لأسفعن بالناصية، ناصية كاذبة فاجرة"، وقرأ أبو حيوة: [ناصية كاذبة خاطئة] بالنصب في الثلاثة، وروي عن الكسائي أنه قرأ بالرفع فيها كلها. و"الناصية" مقدم شعر الرأس، ثم أبدل تعالى النكرة من المعرفة في قوله تعالى: ناصية كاذبة ، ووصفها بالكذب والخطأ من حيث صفة لصاحبها، كما تقول: يد سارقة.

وقوله تعالى: فليدع ناديه إشارة إلى قول أبي جهل: "وما بالوادي أكثر ناديا مني"، والنادي والندى: المجلس، ومنه: دار الندوة، ومنه قول زهير :


وفيهم مقامات حسان وجوههم     وأندية ينتابها القول والفعل



ومنه قول الأعرابية: "سيد ناديه، وثمال عافيه".

و"الزبانية" ملائكة العذاب، واحدهم "زبنية"، وقال الكسائي : "زبني"، وقال عيسى بن عمر الأخفش : "زابن"، وهم الذين يدفعون الناس في النار، والزبن: الدفع، ومنه "حرب زبون"، أي: تدفع الناس في نفسها، ومنه قول الشاعر:


ومستعجب مما يرى من أناتنا     ولو زبنته الحرب لم يترمرم



[ ص: 656 ] ومنه قول عتبة بن أبي سفيان : "وقد زبتنا الحرب وزبناها، فنحن بنوها وهي أمنا"، ومنه قول الشاعر:


عدتني عن زيارتك العوادي     وحالت بيننا حرب زبون



وحذف الواو من "سندع" في خط المصحف اختصارا وتخفيفا، والمعنى: سندعو الزبانية لعذاب هذا الذي يدعو ناديه، وقرأ ابن مسعود : "فليدع إلى ناديه".

ثم قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم "كلا" ردا على قول هذا الكافر وأفعاله، "لا تطعه"، أي: لا تلتفت إلى نهيه وكلامه، "واسجد" لربك، واقترب إليه بسجودك وبالطاعة وبالأعمال الصالحة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد، فأكثروا من الدعاء في السجود، فقمن أن يستجاب لكم". وقال مجاهد ، قال: ألم تسمعوا "واسجد واقترب"، وروى ابن وهب عن جماعة من أهل العلم أن قوله تعالى: "واسجد" خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن "اقترب" خطاب لأبي جهل، أي إن كنت تجترئ حتى ترى كيف تهلك.

وهذه السورة فيها سجدة عند جماعة من أهل العلم منهم ابن وهب من أصحاب مالك .

كمل تفسير سورة[القلم] والحمد لله رب العالمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية