الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 291 ]

                                                                                                                                                                                                                                        سورة الضحى

                                                                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                        والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى والضحى هو قسم ، وفيه أربعة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : أنه أول ساعة من النهار إذا ترحلت الشمس ، قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنه صدر النهار ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : هو طلوع الشمس ، قاله قطرب .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : هو ضوء النهار في اليوم كله ، مأخوذ من قولهم ضحى فلان الشمس ، إذا ظهر لها ، قاله مجاهد ، والاشتقاق لعلي بن عيسى . والليل إذا سجى وهو قسم ثان ، وفيه خمسة تأويلات : أحدها : إذا أقبل ، قاله سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : إذا أظلم ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : إذا استوى ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : إذا ذهب ، قاله ابن حنطلة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 292 ]

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس : إذا سكن الخلق فيه ، قاله عكرمة وعطاء وابن زيد ، مأخوذ من قولهم سجى البحر إذا سكن ، وقال الراجز


                                                                                                                                                                                                                                        يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج



                                                                                                                                                                                                                                        ما ودعك ربك وما قلى اختلف في سبب نزولها ، فروى الأسود بن قيس عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بحجر في إصبعه فدميت ، فقال


                                                                                                                                                                                                                                        هل أنت إلا أصبع دميت     وفي سبيل الله ما لقيت



                                                                                                                                                                                                                                        قال فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم ، فقالت له امرأة يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزل عليه : ما ودعك ربك وما قلى
                                                                                                                                                                                                                                        وروى هشام عن عروة عن أبيه قال : أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم فجزع لذلك جزعا شديدا ، قالت عائشة : فقال كفار قريش : إنا نرى ربك قد قلاك ، مما رأوا من جزعه ، فنزلت : ما ودعك ربك وما قلى ، وروى ابن جريج أن جبريل لبث عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنتا عشرة ليلة فقال المشركون : لقد ودع محمدا ربه ، فنزلت : ما ودعك ربك وما قلى وفي ودعك قراءتان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : قراءة الجمهور ودعك ، بالتشديد ، ومعناها : ما انقطع الوحي عنك توديعا لك . والثانية : بالتخفيف ، ومعناها : ما تركك إعراضا عنك . وما قلى أي ما أبغضك ، قال الأخطل :

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 293 ]


                                                                                                                                                                                                                                        المهديات لمن هوين نسيئة     والمحسنات لمن قلين مقيلا



                                                                                                                                                                                                                                        وللآخرة خير لك من الأولى روى ابن عباس قال : عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده ، فسر بذلك ، فأنزل الله تعالى : وللآخرة خير لك من الأولى الآية . وفي قوله وللآخرة خير لك من الأولى وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : وللآخرة خير لك مما أعجبك في الدنيا ، قاله يحيى بن سلام .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن مآلك في مرجعك إلى الله تعالى أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا ، قاله ابن شجرة . ولسوف يعطيك ربك فترضى يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : يعطيك من النصر في الدنيا ، وما يرضيك من إظهار الدين .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : يعطيك المنزلة في الآخرة ، وما يرضيك من الكرامة . ألم يجدك يتيما فآوى واليتيم بموت الأب ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أبويه وهو صغير ، فكفله جده عبد المطلب ، ثم مات فكفله عمه أبو طالب ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أنه أراد يتم الأبوة بموت من فقده من أبويه ، فعلى هذا في قوله تعالى فآوى وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أي جعل لك مأوى لتربيتك ، وقيما يحنو عليك ويكفلك وهو أبو طالب بعد موت عبد الله وعبد المطلب ، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أي جعل لك مأوى نفسك ، وأغناك عن كفالة أبي طالب ، قاله الكلبي . والوجه الثاني : أنه أراد باليتيم الذي لا مثيل له ولا نظير ، من قولهم درة يتيمة ، إذا لم يكن لها مثيل ، فعلى هذا في قوله فآوى وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : فآواك إلى نفسه واختصك برسالته .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 294 ]

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن جعلك مأوى الأيتام بعد أن كنت يتيما ، وكفيل الأنام بعد أن كنت مكفولا ، تذكيرا بنعمه عليه ، وهو محتمل . ووجدك ضالا فهدى فيه تسعة تأويلات : أحدها : وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه ، قاله ابن عيسى .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : ووجدك ضالا عن النبوة فهداك إليها ، قاله الطبري .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : ووجد قومك في ضلال فهداك إلى إرشادهم ، وهذا معنى قول السدي .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : ووجدك ضالا عن الهجرة فهداك إليها .

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس : ووجدك ناسيا فأذكرك ، كما قال تعالى : أن تضل إحداهما السادس : ووجدك طالبا القبلة فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى الطلب ، لأن الضال طالب .

                                                                                                                                                                                                                                        السابع : ووجدك متحيرا في بيان من نزل عليك فهداك إليه ، فيكون الضلال بمعنى التحير ، لأن الضال متحير .

                                                                                                                                                                                                                                        الثامن : ووجدك ضائعا في قومك فهداك إليه ، ويكون الضلال بمعنى الضياع ، لأن الضال ضائع .

                                                                                                                                                                                                                                        التاسع : ووجدك محبا للهداية فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى المحبة ، ومنه قوله تعالى : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم أي في محبتك ، قال الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        هذا الضلال أشاب مني المفرقا     والعارضين ولم أكن متحققا
                                                                                                                                                                                                                                        عجبا لعزة في اختيار قطيعتي     بعد الضلال فحبلها قد أخلقا



                                                                                                                                                                                                                                        وقرأ الحسن : ووجدك ضال فهدي ، أي وجدك الضال فاهتدى بك ، ووجدك عائلا فأغنى فيه أربعة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : وجدك ذا عيال فكفاك ، قاله الأخفش ، ومنه قول جرير


                                                                                                                                                                                                                                        الله أنزل في الكتاب فريضة     لابن السبيل وللفقير العائل



                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : فقيرا فيسر لك ، قاله الفراء ، قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 295 ]


                                                                                                                                                                                                                                        وما يدري الفقير متى غناه     وما يدري الغني متى يعيل



                                                                                                                                                                                                                                        اي متى يفتقر .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أي وجدك فقيرا من الحجج والبراهين ، فأغناك بها .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : ووجدك العائل الفقير فأغناه الله بك ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بصوته الأعلى ثلاث مرات : (يمن ربي علي وهو أهل المن) فأما اليتيم فلا تقهر فيه خمسة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : فلا تحقر ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : فلا تظلم ، رواه سفيان .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : فلا تستذل ، حكاه ابن سلام .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : فلا تمنعه حقه الذي في يدك ، قاله الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس : ما قاله قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم ، وهي في قراءة ابن مسعود : فلا تكهر ، قاله أبو الحجاج : الكهر الزجر . روى أبو عمران الجوني عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه ، فقال : (إن أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم وأطعم المسكين) وأما السائل فلا تنهر في رده إن منعته ، ورده برحمة ولين ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : السائل عن الدين فلا تنهره بالغلظة والجفوة ، وأجبه برفق ولين ، قاله سفيان . وأما بنعمة ربك فحدث في هذه النعمة ثلاثة تأويلات : أحدها : النبوة ، قاله ابن شجرة ، ويكون تأويل قوله فحدث أي ادع قومك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنه القرآن ، قاله مجاهد ، ويكون قوله : فحدث أي فبلغ أمتك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : ما أصاب من خير أو شر ، قاله الحسن . (فحدث) فيه على هذا وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : فحدث به الثقة من إخوانك ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : فحدث به نفسك ، وندب إلى ذلك ليكون ذكرها شكرا .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية