الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرهن يجمع الشيئين المختلفين من ثياب وأرض وبناء وغيره .

( قال : الشافعي ) : رحمه الله تعالى إذا رهن الرجل الرجل أرضه ، ولم يقل ببنائها فالأرض رهن دون البناء ، وكذلك إن رهنه أرضه ، ولم يقل بشجرها فكان فيها شجر مبدد أو غير مبدد فالأرض رهن دون الشجر ، وكذلك لو رهنه شجرا وبين الشجر بياض فالشجر رهن دون البياض ، ولا يدخل في الرهن إلا ما سمي ، وإذا رهنه ثمرا قد خرج من نخلة قبل أن يحل بيعه ونخله معه فقد رهنه نخلا وثمرا معها فهما رهن جائز من قبل أنه يجوز له لو مات الراهن أو كان الحق حالا أن يبيعهما من ساعته . وكذلك لو كان إلى أجل ; لأن الراهن يتطوع ببيعه قبل أن يحل أو يموت فيحل الحق . وإذا كان الحق في هذا الرهن جائزا إلى أجل فبلغت الثمرة وبيعت خير الراهن بين أن يكون ثمنها قصاصا من الحق أو مرهونا مع النخل حتى يحل الحق .

ولو حل الحق فأراد بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها دون النخل لم يكن له . وكذلك لو أراد قطعها وبيعها لم يكن له إذا لم يأذن له الراهن في ذلك ، ولو رهنه الثمرة دون النخل طلعا أو مؤبرة أو في أي حال قبل أن يبدو صلاحها لم يجز الرهن كان الدين حالا أو مؤجلا إلا أن يتشارطا أن للمرتهن إذا حل حقه قطعها أو بيعها فيجوز الرهن ، وذلك أن المعروف من الثمرة أنها تترك إلى أن تصلح .

ألا ترى { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه } ; لمعرفة الناس أنه يترك حتى يبدو صلاحه ، وأن حلالا أن تباع الثمرة على أن تقطع قبل أن يبدو صلاحها ; لأنه ليس المعنى الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا كل ثمرة وزرع رهن قبل أن يبدو صلاحه ما لم يجز بيعه فلا يجوز رهنه إلا [ ص: 156 ] على أن يقطع إذا حل الحق فيباع مقطوعا بحاله . وإذا حل بيع الثمر حل رهنه إلى أجل كان الحق أو حالا ، وإذا بلغ ، ولم يحل الحق لم يكن للراهن بيعه إذا كان يبس إلا برضا المرتهن فإذا رضي قيمته رهن إلا أن يتطوع الراهن فيجعله قصاصا ، ولا أجعل دينا إلى أجل حالا أبدا إلا أن يتطوع به صاحب الدين ، وإذا رهنه ثمرة فزيادتها في عظمها وطيبها رهن له ، كما أن زيادة الرهن في يديه رهن له ، فإن كان من الثمن شيء يخرج فرهنه إياه ، وكان يخرج بعده غيره منه فلا يتميز الخارج عن الأول المرهون لم يجز الرهن في الأول ، ولا في الخارج ; لأن الرهن حينئذ ليس بمعروف ، ولا يجوز الرهن فيه حتى يقطع مكانه أو يشترط أنه يقطع في مدة قبل أن تخرج الثمرة التي تخرج بعده أو بعدما تخرج قبل أن يشكل أهي من الرهن الأول أم لا ، فإذا كان هذا جاز .

وإن ترك حتى تخرج بعده ثمرة لا يتميز حتى تعرف ، ففيها قولان . أحدهما : أنه يفسد الرهن كما يفسد البيع ; لأني لا أعرف الرهن من غير الرهن . والثاني : أن الرهن لا يفسد ، والقول قول الراهن في قدر الثمرة المرهونة من المختلطة بها كما لو رهنه حنطة أو تمرا فاختلطت بحنطة للراهن ، أو تمر كان القول قوله في قدر الحنطة التي رهن مع يمينه .

( قال الربيع ) : وللشافعي قول آخر في البيع إنه إذا باعه ثمرا فلم يقبضه حتى حدثت ثمرة أخرى في شجرها لا تتميز الحادثة من المبيع قبلها كان البائع بالخيار بين أن يسلم له الثمرة الحادثة مع المبيع الأول فيكون قد زاده خيرا أو ينقض البيع ; لأنه لا يدري كم باع مما حدث من الثمرة .

والرهن عندي مثله فإن رضي أن يسلم ما زاد مع الرهن الأول لم يفسخ الرهن ، وإذا رهنه زرعا على أن يحصده إذا حل الحق بأي حال ما كان فيبيعه فإن كان الزرع يزيد بأن ينبت منه ما لم يكن نابتا في يده إذا تركه لم يجز الرهن ; لأنه لا يعرف الرهن منه الخارج دون ما يخرج بعده . فإن قال : قائل ما الفرق بين الثمرة تكون طلعا وبلحا صغارا ، ثم تصير رطبا عظاما وبين الزرع ؟ قيل : الثمرة واحدة ، إلا أنها تعظم كما يكبر العبد المرهون بعد الصغر ويسمن بعد الهزال .

وإذا قطعت لم يبق منها شيء يستخلف والزرع يقطع أعلاه ، ويستخلف أسفله ويباع منه شيء قصلة بعد قصلة فالخارج منه غير الرهن ، والزائد في الثمرة من الثمرة ، ولا يجوز أن يباع منه ما يقصل إلا أن يقصل مكانه قصلة ، ثم تباع القصلة الأخرى بيعة أخرى ، وكذلك لا يجوز رهنه إلا كما يجوز بيعه . وإذا رهنه ثمرة فعلى الراهن سقيها وصلاحها وجدادها وتشميسها كما يكون عليه نفقة العبد . وإذا أراد الراهن أن يقطعها قبل أوان قطعها أو أراد المرتهن ذلك منع كل واحد منهما ذلك حتى يجتمعا عليه ، وإذا بلغت إبانها جبر الراهن على قطعها ; لأن ذلك من صلاحها ، وكذلك لو أبى المرتهن جبر ، فإذا صارت تمرا وضعت على يدي الموضوع على يديه الرهن أو غيره فإن أبى العدل الموضوع على يديه بأن يتطوع أن يضعها في منزله إلا بكراء قيل للراهن عليك لها منزل تحرز فيه ; لأن ذلك من صلاحها فإن جئت به ، وإلا يكتري عليك منها .

ولا يجوز أن يرتهن الرجل شيئا لا يحل بيعه حين يرهنه إياه ، وإن كان يأتي عليه مدة يحل بعدها ، وهو مثل أن يرهنه جنين الأمة قبل أن يولد على أنها إذا ولدته كان رهنا ، ومثل أن يرهنه ما ولدت أمته أو ماشيته أو ما أخرجت نخله على أن يقطعه مكانه ، ولا يجوز أن يرهنه ما ليس ملكه له بتام . وذلك مثل أن يرهنه ثمرة قد بدا صلاحها لا يملكها بشراء ، ولا أصول نخلها . وذلك مثل أن يتصدق عليه وعلى قوم بصفاتهم بثمرة نخل ، وذلك أنه قد يحدث في الصدقة معه من ينقص حقه ، ولا يدري كم رهنه .

ولا يجوز أن يرهن الرجل الرجل جلود ميتة لم تدبغ ; لأن ثمنها لا يحل ما لم تدبغ ويجوز أن يرهنه إياها إذا دبغت ; لأن ثمنها بعد دباغها يحل ، ولا يرهنه إياها قبل الدباغ ، ولو رهنه إياها قبل الدباغ ثم دبغها الراهن كانت خارجة من الرهن ; لأن عقدة رهنها كان وبيعها لا يحل .

وإذا [ ص: 157 ] وهب للرجل هبة أو تصدق عليه بصدقة غير محرمة فرهنها قبل أن يقبضها ، ثم قبضها فهي خارجة من الرهن ; لأنه رهنها قبل أن يتم له ملكها فإذا أحدث فيها رهنا بعد القبض جازت ، قال : وإذا أوصى له بعبد بعينه فمات الموصي فرهنه قبل أن تدفعه إليه الورثة فإن كان يخرج من الثلث فالرهن جائز ; لأنه ليس للورثة منعه إياه إذا خرج من الثلث والقبض وغير القبض فيه سواء . وللواهب والمتصدق منعه من الصدقة ما لم يقبض .

وإذا ورث من رجل عبدا ، ولا وارث له غيره فرهنه فالرهن جائز ; لأنه مالك للعبد بالميراث ، وكذلك لو اشتراه فنقد ثمنه ثم رهنه قبل أن يقبضه . وإذا رهن الرجل مكاتبا له فعجز المكاتب قبل الحكم بفسخ الرهن فالرهن مفسوخ ; لأني إنما أنظر إلى عقد الرهن لا إلى الحكم ، وإن اشترى الرجل عبدا على أنه بالخيار ثلاثا فرهنه فالرهن جائز ، وهو قطع لخياره ، وإيجاب للبيع في العبد ، وإذا كان الخيار للبائع أو للبائع والمشتري فرهنه قبل مضي الثلاث ، وقبل اختيار البائع إنفاذ البيع ثم مضت الثلاث أو اختار المشتري إنفاذ البيع فالرهن مفسوخ ; لأنه انعقد ، وملكه على العبد غير تام .

ولو أن رجلين ورثا رجلا ثلاثة أعبد فلم يقتسماهم حتى رهن أحدهما عبدا من العبيد الثلاثة أو عبدين ، ثم قاسم شريكه واستخلص منه العبد الذي رهن أو العبدين ، كانت أنصافهما مرهونة له ; لأن ذلك الذي كان يملك منهما وأنصافهما التي ملك بعد الرهن خارجة من الرهن إلا أن يجدد فيهما رهنا ، ولو استحق صاحب وصية منهما شيئا خرج ما استحق منهما من الرهن وبقي ما لم يستحق من أنصافهما مرهونا ( قال : الربيع ) وفيه قول آخر إنه إذا رهن شيئا له بعضه ولغيره بعضه فالرهن كله مفسوخ ; لأن صفقة الرهن جمعت شيئين ما يملك ، وما لا يملك فلما جمعتهما الصفقة بطلت كلها ، وكذلك في البيع ( قال ) وهذا أشبه بجملة قول الشافعي : ولو أن رجلا له أخ هو وارثه فمات أخوه فرهن داره ، وهو لا يعلم أنه مات ثم قامت البينة بأنه كان ميتا قبل رهن الدار كان الرهن باطلا .

ولا يجوز الرهن حتى يرهنه ، وهو مالك له ويعلم الراهن أنه مالك ، وكذلك لو قال : قد وكلت بشراء هذا العبد فقد رهنتكه إن كان اشتري لي فوجد قد اشتري له لم يكن رهنا ، قال : فإن ارتهن قد علم أنه قد صار له بميراث أو شراء قبل أن يرهنه أحلف الراهن فإن حلف فسخ الرهن ، وإن نكل فحلف المرتهن على ما ادعى ثبت الرهن .

وكذلك لو رأى شخصا لا يثبته فقال إن كان هذا فلانا فقد رهنتكه لم يكن رهنا ، وإن قبضه حتى يجدد له مع القبض أو قبله أو بعده رهنا ، وهكذا إن رأى صندوقا فقال : قد كانت فيه ثياب كذا . الثياب يعرفها الراهن والمرتهن فإن كانت فيه فهي لك رهن فلا تكون رهنا ، وإن كانت فيه ، وكذلك لو كان الصندوق في يدي المرتهن وديعة وفيه ثياب فقال : قد كنت جعلت ثيابي التي كذا في هذا الصندوق فهي رهن ، وإن كانت فيه ثياب غيرها أو ثياب معها فليس برهن فكانت فيه الثياب التي قال : إنها رهن لا غيرها فليست برهن .

وهكذا لو قال : قد رهنتك ما في جرابي وأقبضه إياه والراهن لا يعرفه لم يكن رهنا ، وهكذا إن كان الراهن يعرفه والمرتهن لا يعرفه ، ولا يكون الرهن أبدا إلا ما عرفه الراهن والمرتهن وعلم الراهن أنه ملك له يحل بيعه .

ولا يجوز أن يرهنه ذكر حق له على رجل ; لأن ذكر الحق ليس بشيء يملك إنما هو شهادة على رجل بشيء في ذمته والشيء الذي في ذمته ليس بعين قائمة يجوز رهنها إنما ترهن الأعيان القائمة ثم لا يجوز حتى تكون معلومة عند الراهن والمرتهن مقبوضة . ولو أن رجلا جاءته بضاعة أو ميراث كان غائبا عنه لا يعرف قدره فقبضه له رجل بأمره أو بغير أمره ثم رهنه المالك القابض والمالك لا يعرف قدره لم يجز الرهن ، وإن قبضه المرتهن حتى يكون عالما بما رهنه علم المرتهن . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية