الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكر جمع القرآن ، وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها ، وذكر من حفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -

كان القرآن في مدة النبي - صلى الله عليه وسلم - متفرقا في صدور الرجال وقد كتب الناس منه في صحف وفي جريد وفي لخاف وظرر وفي خزف وغير ذلك - قال الأصمعي : اللخاف : حجارة بيض رقاق ، واحدتها لخفة . والظرر : حجر له حد كحد السكين ، والجمع ظرار ; مثل رطب ورطاب ، وربع ورباع ، وظران أيضا مثل صرد وصردان - فلما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة في زمن الصديق رضي الله عنه ، وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة ، أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء ، كأبي وابن مسعود وزيد ; فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك ، فجمعه غير مرتب السور ، بعد تعب شديد ، رضي الله عنه . روى البخاري عن زيد بن ثابت قال : أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن ، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه ، وإني لأرى أن تجمع القرآن ; قال أبو بكر : فقلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : هو والله خير ; فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري ، ورأيت الذي رأى عمر . قال زيد : وعنده عمر جالس لا يتكلم ، فقال لي أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتتبع القرآن فاجمعه ، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ; قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير ; فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ; فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع [ ص: 58 ] والأكتاف والعسب وصدور الرجال ، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره : لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ التوبة : 128 ] إلى آخرها . فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر . وقال الليث حدثني عبد الرحمن بن غالب عن ابن شهاب وقال : مع أبي خزيمة الأنصاري . وقال أبو ثابت حدثنا إبراهيم ! وقال : مع خزيمة أو أبي خزيمة : فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم [ التوبة : 128 - 129 ] .

وقال الترمذي في حديثه عنه : فوجدت آخر سورة " براءة " مع خزيمة بن ثابت لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ( 128 ) فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم [ التوبة : 128 - 129 ] قال : حديث حسن صحيح . وفي البخاري عن زيد بن ثابت قال : لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري - الذي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته بشهادة رجلين - : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] وقال الترمذي عنه : فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر [ الأحزاب : 23 ] فالتمستها فوجدتها عند خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة ، فألحقتها في سورتها .

قلت : فسقطت الآية الأولى من آخر " براءة " في الجمع الأول على ما قاله البخاري والترمذي ، وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة " الأحزاب " . وحكى الطبري : أن آية " براءة " سقطت في الجمع الأخير ، والأول أصح والله أعلم . فإن قيل : فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه ، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه ; قيل له : إن عثمان رضي الله عنه لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف ، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة : أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ; على ما يأتي . وإنما فعل ذلك عثمان لأن الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم ; ووقع بين أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة رضي الله عنه . وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة أرمينية فقرأت كل طائفة بما روي لها ; فاختلفوا وتنازعوا وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا ; فأشفق حذيفة مما رأى منهم ; فلما قدم حذيفة المدينة - فيما ذكر البخاري والترمذي - دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته ، فقال : أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك ! قال : في ماذا ؟ [ ص: 59 ] قال : في كتاب الله ، إني حضرت هذه الغزوة ، وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز ، فوصف له ما تقدم وقال : إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى .

قلت : وهذا أدل دليل على بطلان من قال : إن المراد بالأحرف السبعة قراءات القراء السبعة ، لأن الحق لا يختلف فيه ، وقد روى سويد بن غفلة عن علي بن أبي طالب أن عثمان قال : ما ترون في المصاحف ؟ فإن الناس قد اختلفوا في القراءة حتى أن الرجل ليقول : قراءتي خير من قراءتك ، وقراءتي أفضل من قراءتك . وهذا شبيه بالكفر ; قلنا : ما الرأي عندك يا أمير المؤمنين ؟ قال : الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة ، فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا ، قلنا : الرأي رأيك يا أمير المؤمنين ; فأرسل عثمان إلى حفصة : أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ; فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف . وقال عثمان للرهط القرشيين : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا . حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق . وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك ; فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت في القراءات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واطراح ما سواها ، واستصوبوا رأيه وكان رأيا سديدا موفقا ; رحمة الله عليه وعليهم أجمعين . وقال الطبري فيما روي : أن عثمان قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاص وحده ; وهذا ضعيف . وما ذكره البخاري والترمذي وغيرهما أصح . وقال الطبري أيضا : إن الصحف التي كانت عند حفصة جعلت إماما في هذا الجمع الأخير ; وهذا صحيح .

وقال ابن شهاب : وأخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف ، وقال : يا معشر المسلمين ، أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل ، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر ! . يريد زيد بن ثابت . ولذلك قال عبد الله بن مسعود : يا أهل العراق ، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها ، فإن الله عز وجل يقول : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة [ آل عمران : 161 ] فالقوا الله بالمصاحف ، خرجه الترمذي . وسيأتي الكلام في هذا في سورة آل عمران إن شاء الله تعالى .

قال أبو بكر الأنباري : ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن ، وعبد الله أفضل من زيد ، وأقدم في الإسلام ، وأكثر سوابق ، وأعظم فضائل ، إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله ، إذ وعاه كله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي ، والذي حفظ منه عبد الله في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نيفا وسبعين سورة ، ثم تعلم الباقي بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ; فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار والاختيار . ولا ينبغي أن يظن جاهل أن في هذا طعنا على عبد الله بن مسعود ; لأن زيدا إذا كان [ ص: 60 ] أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا لتقدمته عليه ، لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كان زيد أحفظ منهما للقرآن ، وليس هو خيرا منهما ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب . قال أبو بكر : وما بدا من عبد الله بن مسعود من نكير ذلك فشيء نتجه الغضب ، ولا يعمل به ولا يؤخذ به ، ولا يشك في أنه رضي الله عنه قد عرف بعد زوال الغضب عنه حسن اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم . فالشائع الذائع المتعالم عند أهل الرواية والنقل : أن عبد الله بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد قال بعض الأئمة : مات عبد الله بن مسعود قبل أن يختم القرآن . قال يزيد بن هارون : المعوذتان بمنزلة البقرة وآل عمران ، من زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم ، فقيل له : فقول عبد الله بن مسعود فيهما ؟ فقال : لا خلاف بين المسلمين في أن عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله .

قلت : هذا فيه نظر ، وسيأتي . وروى إسماعيل بن إسحاق وغيره قال حماد : أظنه عن أنس بن مالك ، قال : كانوا يختلفون في الآية فيقولون أقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلان بن فلان ; فعسى أن يكون من المدينة على ثلاث ليال فيرسل إليه فيجاء به ، فيقال : كيف أقرأك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية كذا وكذا ؟ فيكتبون كما قال . قال ابن شهاب : واختلفوا يومئذ في التابوت ، فقال زيد : التابوه . وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص : التابوت ; فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال : اكتبوه بالتاء ; فإنه نزل بلسان قريش . أخرجه البخاري والترمذي . قال ابن عطية : قرأه زيد بالهاء والقرشيون بالتاء ، فأثبتوه بالتاء ; وكتبت المصاحف على ما هو عليه غابر الدهر ، ونسخ منها عثمان نسخا . قال غيره : قيل سبعة ، وقيل أربعة وهو الأكثر ، ووجه بها إلى الآفاق ، فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات ، فاتخذها قراء الأمصار معتمد اختياراتهم ، ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه ، وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم فذلك لأن كلا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه ، إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح ، وأن القراءة بكل منها جائزة ، قال ابن عطية : ثم إن عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق أو تخرق ، تروى بالحاء غير منقوطة وتروى بالخاء على معنى ثم تدفن ، ورواية الحاء غير منقوطة أحسن .

وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب " الرد " عن سويد بن غفلة قال : سمعت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول : يا معشر الناس ، اتقوا الله ! وإياكم والغلو في عثمان ، وقولكم : حراق المصاحف ; فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - . وعن عمير بن سعيد قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان . قال أبو الحسن بن بطال : وفي أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى ، وأن ذلك إكرام لها وصيانة عن الوطء بالأقدام ، وطرحها في ضياع من الأرض . روى معمر عن ابن طاوس عن أبيه : أنه كان يحرق [ ص: 61 ] الصحف إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم . وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة ، وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله تعالى ; وقول من حرقها أولى بالصواب ، وقد فعله عثمان . وقد قال القاضي أبو بكر لسان الأمة : جائز للإمام تحريق الصحف التي فيها القرآن ، إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك .

فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وفي فعل عثمان رضي الله عنه رد على الحلولية والحشوية القائلين بقدم الحروف والأصوات ، وأن القراءة والتلاوة قديمة ، وأن الإيمان قديم ، والروح قديم ; وقد أجمعت الأمة وكل أمة من النصارى واليهود والبراهمة بل كل ملحد وموحد أن القديم لا يفعل ولا تتعلق به قدرة قادر بوجه ولا بسبب ، ولا يجوز العدم على القديم وأن القديم لا يصير محدثا ، والمحدث لا يصير قديما ، وأن القديم ما لا أول لوجوده ، وأن المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن ، وهذه الطائفة خرقت إجماع العقلاء من أهل الملل وغيرهم ; فقالوا : يجوز أن يصير المحدث قديما ، وأن العبد إذا قرأ كلام الله تعالى فعل كلاما لله قديما ، وكذلك إذا نحت حروفا من الآجر والخشب ، أو صاغ أحرفا من الذهب والفضة ، أو نسج ثوبا فنقش عليه آية من كتاب الله فقد فعل هؤلاء كلام الله قديما ، وصار كلامه منسوجا قديما ومنحوتا قديما ومصوغا قديما ; فيقال لهم : ما تقولون في كلام الله تعالى ، أيجوز أن يذاب ويمحى ويحرق ؟ فإن قالوا : نعم ، فارقوا الدين ، وإن قالوا : لا ، قيل لهم : فما قولكم في حروف مصورة آية من كتاب الله تعالى من شمع ، أو ذهب أو فضة أو خشب أو كاغد فوقعت في النار فذابت واحترقت ، فهل تقولون : إن كلام الله احترق ؟ فإن قالوا : نعم ، تركوا قولهم ; وإن قالوا : لا ، قيل لهم أليس قلتم : إن هذه الكتابة كلام الله وقد احترقت ! وقلتم : إن هذه الأحرف كلامه وقد ذابت ، فإن قالوا : احترقت الحروف وكلامه تعالى باق رجعوا إلى الحق والصواب ودانوا بالجواب ; وهو الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - منبها على ما يقول أهل الحق : ولو كان القرآن في إهاب ثم وقع في النار ما احترق . وقال الله عز وجل : أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان الحديث ، أخرجه مسلم . فثبت بهذا أن كلامه سبحانه ليس بحرف ولا يشبه الحروف . والكلام في هذه المسألة يطول وتتميمها في كتب الأصول ، وقد بيناها في ( الكتاب الأسنى ، في شرح أسماء الله الحسنى ) .

فصل : وقد طعن الرافضة - قبحهم الله تعالى - في القرآن ، وقالوا : إن الواحد يكفي في نقل الآية والحرف كما فعلتم ، فإنكم أثبتم بقول رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت وحده آخر سورة " براءة " وقوله : من المؤمنين رجال [ الأحزاب : 23 ] فالجواب أن خزيمة رضي الله عنه لما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة ، وقد كان زيد يعرفهما ، ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة [ ص: 62 ] " التوبة " . ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا أو لا ، فالآية إنما ثبتت بالإجماع لا بخزيمة وحده . جواب ثان : إنما ثبتت بشهادة خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية الأحزاب فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وأبي خزيمة لسماعهما إياها من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال معناه المهلب ، وذكر أن خزيمة غير أبي خزيمة ، وأن أبا خزيمة الذي وجدت معه آية التوبة معروف من الأنصار ، وقد عرفه أنس وقال : نحن ورثناه ، والتي في الأحزاب وجدت مع خزيمة بن ثابت فلا تعارض ; والقصة غير القصة لا إشكال فيها ولا التباس . وقال ابن عبد البر : أبو خزيمة لا يوقف على صحة اسمه وهو مشهور بكنيته ; وهو أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار ، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد ، وتوفي في خلافة عثمان بن عفان ، وهو أخو مسعود بن أوس . قال ابن شهاب عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت : وجدت آخر التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري وهو هذا ، وليس بينه وبين الحارث بن خزيمة أبي خزيمة نسب إلا اجتماعهما في الأنصار ، أحدهما أوسي والآخر خزرجي . وفي مسلم والبخاري عن أنس بن مالك قال : جمع القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة كلهم من الأنصار : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد - قلت لأنس : من أبو زيد ؟ قال : أحد عمومتي . وفي البخاري أيضا عن أنس قال : مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد ، وأبو زيد ; قال : ونحن ورثناه . وفي أخرى قال : مات أبو زيد ولم يترك عقبا ، وكان بدريا ، واسم أبي زيد سعد بن عبيد . قال ابن الطيب رضي الله عنه : لا تدل هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك ، فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعلي وتميم الداري وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن العاص فقول أنس : لم يجمع القرآن غير أربعة ، يحتمل أنه لم يجمع القرآن وأخذه تلقينا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير تلك الجماعة ; فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه من غيره ، وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل سبقهم إلى الإسلام ، وإعظام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم .

قلت : لم يذكر القاضي ، عبد الله بن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما فيما رأيت ، وهما ممن جمع القرآن . روى جرير عن عبد الله بن يزيد الصهباني عن كميل قال : قال عمر بن الخطاب : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر ومن شاء الله ، فمررنا بعبد الله بن مسعود وهو يصلي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من هذا الذي يقرأ القرآن . فقيل له : هذا عبد الله بن أم عبد ; فقال : إن عبد الله يقرأ القرآن غضا كما أنزل الحديث . قال بعض العلماء : معنى قوله : غضا كما أنزل أي أنه كان يقرأ الحرف الأول الذي أنزل عليه القرآن دون الحروف السبعة التي رخص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءته عليها بعد معارضة جبريل عليه السلام القرآن إياه في كل رمضان . وقد روى وكيع وجماعة معه عن الأعمش عن أبي ظبيان قال : قال لي عبد الله بن عباس : أي القراءتين تقرأ ؟ قلت : القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد ; فقال لي : بل هي الآخرة ، إن [ ص: 63 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضه عليه مرتين ، فحضر ذلك عبد الله فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد - فبدأ به - ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة .

قلت : هذه الأخبار تدل على أن عبد الله جمع القرآن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما تقدم ، والله أعلم . وقد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب " الرد " : حدثنا محمد بن شهريار حدثنا حسين بن الأسود حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر عن أبي إسحاق قال : قال عبد الله بن مسعود : قرأت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتين وسبعين سورة - أو ثلاثا وسبعين سورة - وقرأت عليه من البقرة إلى قوله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] . قال أبو إسحاق : وتعلم عبد الله بقية القرآن من مجمع بن جارية الأنصاري .

قلت : فإن صح هذا ، صح الإجماع الذي ذكره يزيد بن هارون ، فلذلك لم يذكره القاضي أبو بكر بن الطيب مع من جمع القرآن وحفظه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والله أعلم .

قال أبو بكر الأنباري : حدثني إبراهيم بن موسى الخوزي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال : سألت الأسود ما كان عبد الله يصنع بسورة الأعراف ؟ فقال : ما كان يعلمها حتى قدم الكوفة ; قال : وقد قال بعض أهل العلم : مات عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه قبل أن يتعلم المعوذتين ; فلهذه العلة لم توجدا في مصحفه ، وقيل غير هذا على ما يأتي بيانه آخر الكتاب عند ذكر " المعوذتين " إن شاء الله تعالى .

قال أبو بكر : والحديث الذي حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عمر بن هارون الخراساني عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن كعب القرظي قال : كان ممن ختم القرآن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ، حديث ليس بصحيح عند أهل العلم ، إنما هو مقصور على محمد بن كعب فهو مقطوع لا يؤخذ به ولا يعول عليه .

قلت : قوله عليه السلام : خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد يدل على صحته ، ومما يبين لك ذلك أن أصحاب القراءات من أهل الحجاز والشام والعراق كل منهم عزا قراءته التي اختارها إلى رجل من الصحابة قرأها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم يستثن من جملة القرآن شيئا ; فأسند عاصم قراءته إلى علي وابن مسعود ، وأسند ابن كثير قراءته إلى أبي ، وكذلك أبو عمرو بن العلاء أسند قراءته إلى أبي ، وأما عبد الله بن عامر فإنه أسند قراءته إلى عثمان وهؤلاء كلهم يقولون : قرأنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأسانيد هذه القراءات متصلة ورجالها ثقات . قاله الخطابي . [ ص: 64 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية