الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
شبيه السبب الخاص مع اللفظ العام ] تقدم أن صورة السبب قطعية الدخول في العام ، وقد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة ، وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة ، رعاية لنظم القرآن وحسن السياق ، فيكون ذلك الخاص قريبا من صورة السبب في كونه قطعي الدخول في العام ، كما اختار السبكي أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق المجرد ، مثاله : قوله - تعالى - : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت [ النساء : 51 ] إلى آخره ، فإنها إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود ، لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر ، حرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم ومحاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوهم : من أهدى سبيلا ؟ محمد وأصحابه أم نحن ؟ فقالوا : أنتم مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - المنطبق عليه وأخذ المواثيق عليهم أن لا يكتموه ، فكان ذلك أمانة لازمة لهم ، ولم يؤدوها حيث قالوا للكفار : أنتم أهدى سبيلا حسدا للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

فقد تضمنت هذه الآية - مع هذا القول - التوعد عليه المفيد للأمر بمقابله المشتمل على أداء الأمانة التي هي بيان صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإفادة أنه الموصوف في كتابهم ، وذلك مناسب لقوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ النساء : 58 ] . فهذا عام في كل أمانة ، وذلك خاص بأمانة ، هي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإفادة أنه الموصوف في كتابهم ، وذلك مناسب لقوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ النساء : 58 ] . فهذا عام في كل أمانة ، وذلك خاص بأمانة ، هي صفة النبي ، بالطريق السابق ، والعام تال للخاص في الرسم ، متراخ عنه في النزول ، والمناسبة تقتضي دخول ما دل عليه الخاص في العام ، ولذا قال ابن العربي في تفسيره : وجه النظم أنه أخبر ، عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقولهم إن المشركين أهدى سبيلا فكان ذلك خيانة منهم ، فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات . انتهى .

قال بعضهم : ولا يرد تأخر نزول آية الأمانات ، عن التي قبلها بنحو : ست سنين ; لأن الزمان إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة ; لأن المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها ; [ ص: 126 ] والآيات كانت تنزل على أسبابها ، ويأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضعها في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها .

المسألة الرابعة :

[ طريق معرفة سبب النزول ] قال الواحدي : لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب ، وبحثوا عن علمها . وقد قال محمد ابن سيرين : سألت عبيدة عن آية من القرآن ، فقال : اتق الله ، وقل سدادا ، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل الله القرآن .

وقال غيره : معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا ، وربما لم يجزم بعضهم ، فقال : أحسب هذه الآية نزلت في كذا كما أخرج الأئمة الستة ، عن عبد الله بن الزبير قال خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال الأنصاري : يا رسول الله إن كان ابن عمتك ! فتلون وجهه . . . الحديث . قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ النساء : 65 ] .

قال الحاكم في علوم الحديث : إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند . ومشى على هذا ابن الصلاح وغيره ، ومثلوه بما أخرجه مسلم ، عن جابر ، قال : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله نساؤكم حرث لكم [ البقرة : 223 ] .

[ ص: 127 ] وقال ابن تيمية : قولهم : نزلت هذه الآية في كذا ، يراد به تارة سبب النزول ويراد به أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب ، كما تقول : عني بهذه الآية كذا . وقد تنازع العلماء في قول الصحابي : نزلت هذه الآية في كذا ، هل يجري مجرى المسند ، كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله ، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند ؟ فالبخاري يدخله في المسند ، وغيره لا يدخله فيه وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره ، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه ، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند . انتهى .

وقال الزركشي في البرهان : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها ، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية ، لا من جنس النقل لما وقع .

قلت : والذي يتحرر في سبب النزول أنه : ما نزلت الآية أيام وقوعه ، ليخرج ما ذكره الواحدي في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به ، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء ، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية ، كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ، ونحو ذلك . وكذلك ذكره في قوله : واتخذ الله إبراهيم خليلا [ النساء : 125 ] سبب اتخاذه خليلا ليس ذلك من أسباب نزول القرآن ، كما لا يخفى .

تنبيه : ما تقدم أنه من قبيل المسند من الصحابي : إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضا ، لكنه مرسل ، فقد يقبل إذا صح السند إليه ، وكان من أئمة التفسير الآخذين ، عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، أو اعتضد بمرسل آخر ونحو ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية