الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

المقام الخامس : إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها ، فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر ، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة ، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات كما يحتج بها في الطلبيات العمليات ، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينا ، بشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته ، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ، لم ينقل عن أحد منهم ألبتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته .

فأين السلف والمفرقين بين البابين ، نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه ، بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ، ويحيلون على آراء المتكلمين ، وقواعد المتكلفين ، فهم الذين يعرف عنهم تفريق بين الأمرين ، فإنهم قسموا الدين إلى مسائل علمية وعملية وسموها أصولا وفروعا وقالوا : الحق في مسائل الأصول واحد ، ومن خالفه فهو كافر أو فاسق ، وأما مسائل الفروع فليس لله تعالى فيها حكم معين ولا يتصور فيها الخطأ وكل مجتهد لحكم الله تعالى الذي هو حكمه ، وهذا التقسيم لو [ ص: 591 ] رجع إلى مجرد الاصطلاح لا يتميز به ما سموه أصولا مما سموه فروعا ، فكيف وقد وضعوا عليه أحكاما وضعوها بعقولهم وآرائهم ( منها ) التكفير بالخطأ في مسائل الأصول دون مسائل الفروع ، وهذا من أبطل الباطل كما سنذكره ( ومنها ) إثبات الفروع بأخبار الآحاد دون الأصول وغير ذلك ، وكل تقسيم لا يشهد له الكتاب والسنة وأصول الشرع بالاعتبار فهو تقسيم باطل يجب إلغاؤه .

وهذا التقسيم أصل من أصول ضلال القوم فإنهم فرقوا بين ما سموه أصولا وما سموه فروعا ، وسلبوا الفروع حكم الله المعين فيها ، بل حكم الله فيها يختلف باختلاف آراء المجتهدين ، وجعلوا ما سموه أصولا من أخطأ فيه عندهم فهو كافر أو فاسق ، وادعوا الإجماع على هذا التفريق ، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعا عن إمام من أئمة المسلمين ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ، وهذا عادة أهل الكلام يحكمون الإجماع على ما لم يقله أحد من أئمة المسلمين بل أئمة الإسلام على خلافه ، وقال الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فقد كذب ، أما هذه دعوى الأصم وابن علية وأمثالهما يريدون أن يبطلوا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدعونه من الإجماع .

ومن المعلوم قطعا بالنصوص وإجماع الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره الأئمة الأربعة نصا أن المجتهدين المتنازعين في الأحكام الشرعية ليسوا كلهم سواء ، بل فيهم المصيب والمخطئ ، فالكلام فيما سموه أصولا وفيما سموه فروعا ، ينقسم إلى مطابق للحق في نفس الأمر وغير مطابق ، فانقسام الاعتقاد في الحكم إلى المطابق وغير مطابق كانقسام الاعتقاد في باب الخمر إلى مطابق وغير مطابق ، فالقائل في الشيء حلال والقائل حرام في إصابة أحدهما وخطأ الآخر كالقائل إنه سبحانه يرى والقائل أنه لا يرى في إصابة أحدهما وخطأ الآخر ، والكذب على الله تعالى خطأ أو عمد في هذا كالكذب عليه عمدا أو خطأ في الآخر ، فإن المخبر يخبر عن الله أنه أمر بكذا وأباحه ، والآخر يخبر أنه نهى عنه وحرمه ، فأحدهما مخطئ قطعا .

فإن قيل : الفرق بينهما أنه يجوز أن يكون في نفس الأمر لا حلالا ولا حراما بل هو حلال في حق من اعتقد حله ، حرام في حق من اعتقد تحريمه .

قيل : هذا باطل من وجوه عديدة ، وقد ذكرنا في كتاب المفتاح وغيره ( منها ) إنه خلاف نص القرآن والسنة وخلاف إجماع الصحابة وأئمة الإسلام ( ومنها ) أن يكون [ ص: 592 ] حكم الله تعالى تابعا لآراء الرجال وظنونها ( ومنها ) أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا مرضيا لله مسخوطا محبوبا له مبغوضا ( ومنها ) أنه ينفي حقيقة حكم الله في نفس الأمر ( ومنها ) أن تكون الحقائق تبعا للعقائد ، فمن اعتقد بطلان الحكم المعين كان باطلا ومن اعتقد صحته كان صحيحا ، ومن اعتقد حله كان حلالا ، ومن اعتقد تحريمه كان حراما ، وهذا القول كما قال فيه بعض العلماء : أوله سفسطة وآخره زندقة ، فإنه يتضمن بطلان حكم الله تعالى قبل وجود المجتهدين ، وإن الله لم يشرع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حكما أمره به ونهاه عنه ( ومنها ) إن حكم الله يرجع إلى خبره وإرادته ، فإذا أراد إيجاب الشيء وأخبر به صار واجبا ، وإذا أراد تحريمه وأمر بذلك صار حراما ، فإنكار أن يكون الله حكما إنكار لخبره وإرادته وإلغاء لتعلقها بأفعال المكلفين .

ومنها : أنه يرفع ثبوت الأجرين للمصيب ، والأجر للمخطئ ، فإنه لا خطأ في نفس الأمر عندهم بل كان مجتهدا مصيبا لحكم الله تعالى في نفس الأمر ( ومنها ) أنه يبطل أن يوافق أحد حكم الله تعالى ، فليس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى الملك " معنى ، ولا لقوله : " إن سألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل فإنك لا تدري أتصيب حكم الله تعالى فيهم أم لا " معنى ولا لقوله : " إن سليمان سأل ربه حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه " ولا لقوله ففهمناها سليمان معنى ، إذا كل منهما حكم بعين حكم الله تعالى عندهم ، ولا لقوله : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " معنى .

وأيضا فهذا إجماع من الصحابة ، قال الصديق في الكلالة : " أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله " ، وقال عمر لكاتبه : " اكتب هذا ما رآه عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر " ، وقال في قضية قضاها : " والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه " ، ذكره أحمد .

[ ص: 593 ] وقال علي لعمر في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها وقد استشار عثمان وعبد الرحمن فقالا : ليس عليك إنما أنت مؤدب ، فقال له علي : إن كانا اجتهدا فقد أخطآ وإن لم يجتهدا فقد غشاك ، عليك الدية فرجع عمر إلى رأيه ، واعترف علي رضي الله عنه بخطئه في خبر صفين وندم على ذلك وكان مجتهدا فيه .

وقال ابن مسعود في قصة بروع : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله ، وقال ابن عباس : ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا ، وقال : من شاء باهلته في العول ، وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم : " أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب " ، وقال ابن عباس وقد ناظروه في مسألة متعة الحج واحتجوا عليه بأبي بكر وعمر : أما تخشون أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون : قال أبو بكر وعمر ، وكان ابن عمر يأمر بالتمتع فيقولون له : إن أباك نهى عنه فقال : أيهما أولى أن يتبع كتاب الله أو كلام عمر .

وقال عمران بن حصين : نزل بها القرآن وفعلناها مع رسول الله ، قال رجل برأيه ما شاء ، يعرض بعمر ، وقال ابن الزبير لابن عباس في متعة النساء : لئن فعلتها لأرجمنك فجرب إن شئت ، وقال علي لابن عباس منكرا عليه إباحة ( الحمر ) الأهلية ومتعة النساء : إنك امرؤ تائه ، أي تهت عن القول الحق ، وفسخ عمر بيع أمهات الأولاد وردهن حبالى من تستر ، وفسخ حكم الصديق في استرقاق نساء أهل الردة وكان يضرب عن الركعتين بعد العصر ، وكان أبو طلحة وأبو أيوب وعائشة يصلونها ، فتركها أبو طلحة وأبو أيوب مدة حياة عمر خوفا منه ، فلما مات عاوداها .

وقال ابن مسعود لما طلب منه موافقة أبي موسى في مسألة بنت وبنت ابن وأخت فأعطى البنت النصف والأخت النصف : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، فجعل القول الآخر الذي جعله المصوبة صوابا عند الله ضلالا ، وهذا أكثر من أن يحيط به إلا الله تعالى .

[ ص: 394 ] وأيضا فالأحاديث والآيات الناهية عن الاختلاف في الدين المتضمنة لذمه كلها شهادة صريحة بأن الحق عند الله واحد ، وما عداه فخطأ ، ولو كانت تلك الأقوال كلها صوابا لم ينه الله ورسوله عن الاختلاف ولا ذمه .

وأيضا فقد أخبر الله تعالى أن الاختلاف ليس من عنده وما لم يكن من عنده فليس بالصواب ، قال تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وهو وإن كان في اختلاف ألفاظه فهو يدل على أن ما اختلف معانيه ليس من عند الله إذ المعنى هو المقصود .

وأيضا إذا اختلف المجتهدان فرأى أحدهما إباحة دم إنسان ، والآخر تحريمه ورأى أحدهما تارك الصلاة كافرا مخلدا في النار ، والآخر رآه مؤمنا من أهل الجنة ، فلا يخلو إما أن يكون الكل حقا وصوابا عند الله تعالى في نفس الأمر ، أو الجميع خطأ عنده ، أو الصواب والحق في واحد من القولين والآخر خطأ ، والأول والثاني ظاهر الإحالة وهما بالهوس أشبه منهما بالصواب فكيف يكون إنسان واحد مؤمنا كافرا مخلدا في الجنة وفي النار ، وكون المصيب واحدا هو الحق وهو منصوص الإمام أحمد ومالك والشافعي ، كما حكاه أبو إسحاق في شرح اللمع له أن مذهب الشافعي أن المصيب واحد ، هذا قوله في القديم والجديد .

قال القاضي أبو الطيب : وليس عنده مسألة تدل على أن كل مجتهد مصيب ، وأقوال الصحابة كلها صريحة أن الحق عند الله في واحد من الأقوال المختلفة وهو دين الله في نفس الأمر الذين لا دين له سواه .

وليس الغرض استقصاء هذه المسألة بل المقصود أن الخطأ يقع فيما سموه فروعا كما يقع فيما جعلوه أصولا فنطالبهم بفرق صحيح بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد من الدين وما لا يجوز ، ولا يجدون إلى الفرق سبيلا إلا بدعاو باطلة ثم نطالبهم بالفرق بين مسائل الأصول والفروع وما ضابط ذلك ، ثم نطالبهم بالفرق بين ما يأثم جاحده أهو إثم كفر أو فسوق وما لا يأثم جاحده ، ونطالبهم بالفرق بين ما المطلوب منه القطع اليقيني ، وما يكتفى فيه الظن ولا سبيل لهم إلى تقرير شيء من ذلك ألبتة .

قال الجويني وقد تكلموا في الفرق بين الأصول والفروع فقالوا : الأصل ما فيه دليل قطعي والفرع بخلافه .

[ ص: 595 ] قلت : وهذا يلزم منه الدور فإنه إذا قيل : لا تثبت الأصول إلا بالدليل القطعي ثم قيل : والأصل ما عليه دليل قطعي كان ذلك دورا ظاهرا .

وأيضا فإن كثيرا من المسائل العملية بل أكثرها عليها أدلة قطعية كوجوب الطهارة والصلاة والصيام والحج والزكاة ونقض الوضوء بالبول والغائط ووجوب الغسل بالاحتلام ، وهكذا أكثر الشريعة أدلتها قطعية ، وكثير من المسائل التي هي عندهم أصول أدلتها ظنية .

وهكذا في أصول الدين وأصول الفقه أكثر من أن يذكر ، كالقول بالمفهوم والقياس ، وتقدمهما على العموم والأمر بعد الحظر ومسألة انقراض العصر ، وقول الصحابي ، والاحتجاج بالمراسيل وشرع من قبلنا ، وأضعاف ذلك .

وكذلك أصول الدين كمسألة الحال وبقاء الرب تعالى وقدمه هل هي بقاء وقدم زائدين على الذات ، والوجود الواجب هل من نفس الماهية أو زائد عليها ، وإثبات المعنى القائم بالنفس وغير ذلك ، فعلى هذا الفرق تكون هذه المسائل ونحوها فرعية وتلك المسائل العملية أصولية .

قال : وقيل : الأصل ما لا يجوز التعبد فيه إلا بأمر واحد معين والفرع بخلافه .

قلت : وهذا الفرق أفسد من الأول فإن أكثر الفروع لا يجوز التعبد فيها إلا بالمشروع على لسان كل نبي ، فلا يجوز التعبد بالسجود للأصنام وإباحة الفواحش وقتل النفوس والظلم في الأموال ، وانتهاك الأعراض وشهادات الزور ونحو ذلك ، وإن كان نفاة التحسين والتقبيح يجوزون التعبد بذلك ، ويقولون يجوز أن تأتي الشرائع من عند الله تعالى بذلك ، فقولهم من أبطل الباطل ، وقد ذكرنا فساده من أكثر من ستين وجها في غير هذا الكتاب ، وإنه مما يعلم بطلانه بالضرورة .

قال : وقيل : الأصل بما يجوز أن يعلم من غير تقديم ورود الشرع والفرع بخلافه ، وهذا الفرق أيضا في غاية الفساد ، فإن أكثر المسائل التي يسمونها أصولا لم تعلم إلا بعد ورود الشرع ، كاقتضاء الأمر للوجوب والنهي للتحريم ، وكون القياس حجة وكون الإجماع حجة ، بل أكثر مسائل أصول الدين لم تعلم إلا بالسمع ، فجواز رؤية الرب تبارك وتعالى يوم القيامة واستواؤه على عرشه بخلاف مسألة علوه فوق المخلوقات بالذات فإنها فطرية ضرورية ، وأكثر مسائل المعاد وتفصيله لا يعلم قبل ورود الشرع ، ومسائل عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين وغير ذلك من مسائل الأصول التي لا تعلم قبل ورود الشرع .

التالي السابق


الخدمات العلمية