الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 211 ] والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير انتقال من الاستدلال بدقائق صنع الله على وحدانيته إلى الاستدلال بتصرفه في الخلق التصرف الغالب لهم الذي لا يستطيعون دفعه ، على انفراده بربوبيتهم ، وعلى عظيم قدرته ، كما دل عليه تذييلها بجملة ( إن الله عليم قدير ) فهو خلقهم بدون اختيار منهم ثم يتوفاهم كرها عليهم ، أو يردهم إلى حالة يكرهونها ، فلا يستطيعون ردا لذلك ، ولا خلاصا منه ، وبذلك يتحقق معنى العبودية بأوضح مظهر .

وابتدئت الجملة باسم الجلالة للغرض الذي شرحناه عند قوله تعالى والله أنزل من السماء ماء ، وأما إعادة اسم الجلالة هنا دون الإضمار ; فلأن مقام الاستدلال يقتضي تكرير اسم المستدل بفتح الدال على إثبات صفاته تصريحا واضحا .

وجيء بالمسند فعليا لإفادة تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي في الإثبات ، نحو : أنا سعيت في حاجتك ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى والله أنزل من السماء ماء ، فهذه عبرة ، وهي أيضا منة ; لأن الخلق وهو الإيجاد نعمة لشرف الوجود والإنسانية ، وفي التوفي أيضا نعم على المتوفي ; لأن به تندفع آلام الهرم ، ونعم على نوعه إذ به ينتظم حال أفراد النوع الباقين بعد ذهاب من قبلهم ، وهذا كله بحسب الغالب فردا ونوعا ، والله يخص بنعمته وبمقدارها من يشاء .

ولما قوبل ( ثم يتوفاكم ) بقوله تعالى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر علم أن المعنى ( ثم يتوفاكم ) في إبان الوفاة ، وهو السن المعتادة الغالبة ; لأن الوصول إلى أرذل العمر نادر .

والأرذل : تفضيل في الرذالة ، وهي الرداءة في صفات الاستياء .

[ ص: 212 ] والعمر : مدة البقاء في الحياة ; لأنه مشتق من العمر ، وهو شغل المكان ، أي عمر الأرض ، قال تعالى وأثاروا الأرض وعمروها ، فإضافة ( أرذل ) إلى العمر التي هي من إضافة الصفة إلى الموصوف على طريقة المجاز العقلي ; لأن الموصوف بالأرذل حقيقة هو حال الإنسان في عمره لا نفس العمر ، فأرذل العمر هو حال هرم البدن ، وضعف العقل ، وهو حال في مدة العمر ، وأما نفس مدة العمر فهي هي ، لا توصف برذالة ولا شرف .

والهرم لا ينضبط حصوله بعدد من السنين ; لأنه يختلف باختلاف الأبدان والبلدان والصحة والاعتلال على تفاوت الأمزجة المعتدلة ، وهذه الرذالة رذالة في الصحة لا تعلق لها بحالة النفس ، فهي مما يعرض للمسلم والكافر فتسمى أرذل العمر فيهما ، وقد استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن يرد إلى أرذل العمر .

ولام التعليل الداخلة على ( كي ) المصدرية مستعملة في معنى الصيرورة والعاقبة ; تشبيها للصيرورة بالعلة استعارة تشير إلى أنه لا غاية للمرء في ذلك التعمير تعريضا بالناس ، إذ يرغبون في طول الحياة ، وتنبيها على وجوب الإقصار من تلك الرغبة ، كأنه قيل : منكم من يرد إلى أرذل العمر ; ليصير غير قابل لعلم ما لم يعلمه ; لأنه يبطئ قبوله للعلم ، وربما لم يتصور ما يتلقاه ثم يسرع إليه النسيان ، والإنسان يكره حالة انحطاط علمه ; لأنه يصير شبيها بالعجماوات .

واستعارة حرف العلة إلى معنى العاقبة مستعملة في الكلام البليغ في مقام التوبيخ أو التخطئة أو نحو ذلك ، وتقدم عند قوله تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثما في سورة آل عمران ، وقد تقدم القول قريبا في ذلك عند قوله تعالى إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم في هذه السورة .

وتنكير ( علم ) تنكير الجنس ، والمعنى : لكيلا يعلم شيئا بعد أن كان له علم ، أي ليزول منه قبول العلم .

[ ص: 213 ] وجملة ( إن الله عليم قدير ) تذييل تنبيها على أن المقصود من الجملة الدلالة على عظم قدرة الله وعظم علمه ، وقدم وصف العليم ; لأن القدرة تتعلق على وفق العلم ، وبمقدار سعة العلم يكون عظم القدرة ، فضعيف القدرة يناله تعب من قوة علمه ; لأن همته تدعوه إلى ما ليس بالنائل ، كما قال أبو الطيب :


وإذا كانت النفوس كبـارا تعبت في مرادها الأجسام



التالي السابق


الخدمات العلمية