الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرهن الفاسد ( قال الشافعي ) : رحمه الله والرهن الفاسد أن يرتهن الرجل من الرجل مكاتبه قبل أن يعجز ، ولو عجز لم يكن على الرهن حتى يجدد له رهنا يقبضه بعد عجزه ، ولو ارتهن منه أم ولده كان الرهن فاسدا في قول من لا يبيع أم الولد أو يرتهن من الرجل ما لا يحل له بيعه مثل الخمر والميتة والخنزير أو يرتهن منه ما لا يملك فيقول أرهنك هذه الدار التي أنا فيها ساكن ويقبضه إياها ، أو هذا العبد الذي هو في يدي عارية أو بإجارة ويقبضه إياه على أني اشتريته ثم يشتريه فلا يكون رهنا ، ولا يكون شيء رهنا حتى ينعقد الرهن والقبض فيه والراهن مالك لا يجوز بيعه قبل الرهن وبيعه معه ، ولو عقد الرهن ، وهو لا يجوز له رهنه ثم أقبضه إياه ، وهو يجوز رهنه لم يكن رهنا حتى يجتمع الأمران معا ، وذلك مثل أن يرهنه الدار ، وهي رهن ثم ينفسخ الرهن فيها فيقبضه إياها ، وهي خارجة من الرهن الأول فلا يجوز الرهن فيها حتى يحدث له رهنا يقبضها به ، وهي خارجة من أن تكون رهنا لرجل أو ملكا لغير الراهن ، ولا يجوز أن يرهن رجل رجلا ذكر حق له على رجل ، قبل ذلك الذي عليه ، ذكر الحق أو لم يقبله ; لأن إذكار الحقوق ليست بعين قائمة للراهن فيرهنها المرتهن ، وإنما هي شهادة بحق في ذمة الذي عليه الحق فالشهادة ليست ملكا والذمة بعينها ليست ملكا فلا يجوز والله - تعالى - أعلم أن يجوز الرهن فيها في قول من أجاز بيع الدين [ ص: 164 ] ومن لم يجزه .

أرأيت إن قضى الذي عليه ذكر الحق المرهون صاحب الحق حقه أما يبرأ من الدين ؟ فإذا برئ منه انفسخ المرتهن للدين بغير فسخه له ، ولا اقتضائه لحقه ، ولا إبرائه منه ، ولا يجوز أن يكون رهن إلى الراهن فسخه بغير أمر المرتهن فإن قيل فيتحول رهنه فيما اقتضى منه قيل فهو إذا رهنه مرة كتابا ، ومالا والرهن لا يجوز إلا معلوما ، وهو إذا كان له مال غائب فقال : أرهنك مالي الغائب لم يجز حتى يقبض والمال كان غير مقبوض حين رهنه إياه ، وهو فاسد من جميع جهاته . ولو ارتهن رجل من رجل عبدا ، وقبضه ثم إن المرتهن رهن رجلا أجنبيا العبد الذي ارتهن أو قال : حقي في العبد الذي ارتهنت لك رهن ، وأقبضه إياه لم يجز الرهن فيه ; لأنه لا يملك العبد الذي ارتهن ، وإنما له شيء في ذمة مالكه جعل هذا الرهن وثيقة منه إذا أداه المالك انفسخ من عنق هذا . أو رأيت إن أدى الراهن الأول الحق أو أبرأه منه المرتهن أما ينفسخ الرهن ؟ .

( قال ) فإن قال قائل فيكون الحق الذي كان فيه رهنا إذا قبضه مكانه ، قيل فهذا إذا مع أنه رهن عبدا لا يملكه رهن مرة في عبد وأخرى في دنانير بلا رضا المرتهن الآخر . أرأيت لو رهن رجل رجلا عبدا لنفسه ثم أراد أن يعطي المرتهن مكان العبد خيرا منه وأكثر ثمنا أكان ذلك له ؟ فإن قال : ليس هذا له فإذا كان هذا هكذا لم يجز أن يرهن عبدا لغيره ، وإن كان رهنا له ; لأنه إذا اقتضاه ما فيه خرج من الرهن ، وإن لم يقبض ارتهنه ما له فيه . وإن قال : رجل لرجل قد رهنتك أول عبد لي يطلع علي أو على عبد وجدته في داري فطلع عليه عبد له أو وجد عبدا في دار فأقبضه إياه فالرهن مفسوخ لا يجوز الرهن حتى ينعقد على شيء بعينه ، وكذلك ما خرج من صدفي من اللؤلؤ ، وكذلك ما خرج من حائطي من الثمر ، وهو لا ثمر فيه ، فالرهن في هذا كله مفسوخ حتى يجدد له رهنا بعدما يكون عينا تقبض .

ولو قال : رهنتك أي دوري شئت أو أي عبيدي شئت فشاء بعضهم وأقبضه إياها لم يكن رهنا بالقول الأول حتى يجدد فيه رهنا ، ولو رهن رجل رجلا سكنى دار له معروفة وأقبضه إياها لم يكن رهنا ; لأن السكنى ليست بعين قائمة محتبسة وأنه لو حبس المسكن لم يكن فيه منفعة للحابس ، وكان فيه ضرر على الرهن . ولو قال : رهنتك سكنى منزلي يعني يكريه ويأخذ كراءه كان إنما رهنه شيئا لا يعرفه يقل ويكثر ويكون ، ولا يكون ، ولو قال : أرهنك سكنى منزلي يعني يسكنه لم يكن هذا كراء جائزا ، ولا رهنا ; لأن الرهن ما لم ينتفع المرتهن منه إلا بثمنه فإن سكن على هذا الشرط فعليه كراء مثل السكنى الذي سكن .

ولو كان لرجل عبد فرهنه من رجل ثم قال : لرجل آخر قد رهنتك من عبدي الذي رهنت فلانا ما فضل عن حقه ورضي بذلك المرتهن الأول وسلم العبد فقبضه المرتهن الآخر أو لم يرض ، وقد قبض المرتهن الآخر الرهن أو لم يقبضه فالرهن منتقض ; لأنه لم يرهنه ثلثا ، ولا ربعا ، ولا جزءا معلوما من عبد ، وإنما رهنه ما لا يدري كم هو من العبد ، ولا كم هو من الثمن ، ولا يجوز الرهن على هذا ، وهو رهن للمرتهن الأول ، ولو رهن رجل رجلا عبدا بمائة ثم زاده مائة ، وقال : اجعل لي الفضل عن المائة الأولى رهنا بالمائة الآخرة ففعل كان العبد مرهونا بالمائة الأولى ، ولا يكون مرهونا بالمائة الأخرى ، وهي كالمسألة قبلها ، ولو أقر الراهن أن العبد ارتهن بالمائتين معا في صفقة واحدة وادعى ذلك المرتهن أو أن هذين الرجلين ارتهنا العبد معا بحقيهما وسمياه وادعيا ذلك معا أجزت ذلك فإذا أقر بأنه رهنه رهنا بعد رهن لم يقبل ، ولم يجز الرهن قال : ولو كانت لرجل على رجل مائة فرهنه بها دارا ثم سأله أن يزيده رهنا فزاده رهنا غير الدار وأقبضه إياه فالرهن جائز ، وهذا كرجل كان له على رجل حتى بلا رهن ثم رهنه به رهنا وأقبضه إياه فالرهن جائز ، وهو خلاف المسألتين قبلها .

ولو أن رجلا رهن رجلا دارا بألف فأقر المرتهن لرجل غيره أن هذا الدار رهن بينه وبينه بألفين هذه الألف وألف سواها فأقر الراهن بألف لهذا المدعي الرهن المقر له المرتهن بلا رهن [ ص: 165 ] وأنكر الراهن فالقول قول رب الرهن ، والألف التي لم يقر فيها بالرهن عليه بلا رهن في هذا الرهن والأولى بالرهن الذي أقر به ، ولو كان المرتهن أقر أن هذه الدار بينه وبين رجل ونسب ذلك إلى أن الألف التي باسمه بينه وبين الذي أقر له لزمه إقراره ، وكانت الألف بينهما نصفين ، وهو كرجل له على رجل حق فأقر أن ذلك الحق لرجل غيره فذلك الحق لرجل غيره على ما أقر به .

ولو دفع رجل إلى رجل حقا فقال قد رهنتكه بما فيه ، وقبضه المرتهن ورضي كان الرهن بما فيه إن كان فيه شيء منفسخا من قبل أن المرتهن لا يدري ما فيه أرأيت لو لم يكن فيه شيء أو كان فيه شيء لا قيمة له فقال المرتهن : قبلته وأنا أرى أن فيه شيئا ذا ثمن ألم يكن ارتهن ما لم يعلم والرهن لا يجوز إلا معلوما ، وكذلك جراب بما فيه وخريطة بما فيها وبيت بما فيه من المتاع ، ولو رهنه في هذا كله الحق دون ما فيه أو قال الحق ، ولم يسم شيئا كان الحق رهنا ، وكذلك البيت دون ما فيه ، وكذلك كل ما سمي دون ما فيه ، وكان المرتهن بالخيار في فسخ الرهن والبيع إن كان عليه أو ارتهان الحق دون ما فيه ، وهذا في أحد القولين .

والقول الثاني : أن البيع إن كان عليه مفسوخ بكل حال فأما الخريطة فلا يجوز الرهن فيها إلا بأن يقول دون ما فيها ; لأن الظاهر من الحق والبيت أن لهما قيمة والظاهر من الخريطة أن لا قيمة لها ، وإنما يراد بالرهن ما فيها قال : ولو رهن رجل من رجل نخلا مثمرا ، ولم يسم الثمر فالثمر خارج من الرهن كان طلعا أو بسرا أو كيف كان فإن كان قد خرج طلعا كان أو غيره فاشترطه المرتهن مع النخل فهو جائز ، وهو رهن مع النخل ; لأنه عين ترى ، وكذلك لو ارتهن الثمر بعدما خرج ورئي جاز الرهن ، وله تركه في نخله حتى يبلغ وعلى الراهن سقيه والقيام بما لا بد له منه مما لا يثبت إلا به ويصلح في شجره إلا به كما يكون عليه نفقة عبده إذا رهنه ، ولو رهن رجل رجلا نخلا لا ثمرة فيها على أن ما خرج من ثمرها رهن أو ماشية لا نتاج معها على أن ما نتجت رهن كان الرهن في الثمرة والنتاج فاسدا ; لأنه ارتهن شيئا معلوما وشيئا مجهولا .

ومن أجاز هذا في الثمرة لزمه - والله أعلم - أن يجيز أن يرهن الرجل الرجل ما أخرجت نخله العام ، وما نتجت ماشيته العام ، ولزمه أن يقول : أرهنك ما حدث لي من نخل أو ماشية أو ثمرة نخل أو أولاد ماشية وكل هذا لا يجوز فإن ارتهنه على هذا فالرهن فاسد ، وإن أخذ من الثمرة شيئا فهو مضمون عليه حتى يرد مثله ، وكذلك ولد الماشية أو قيمته إن لم يكن له مثل ، ولا يفسد الرهن في النخل والماشية التي هي بأعيانها بفساد ما شرط معها في قول من أجاز أن يرهنه عبدين فيجد أحدهما حرا أو عبدا أو زق خمر فيجيز الجائز ويرد المردود معه .

وفيها قول آخر : إن الرهن كله يفسد في هذا كما يفسد في البيوع لا يختلف فإذا جمعت صفقة الرهن شيئين أحدهما جائز والآخر غير جائز فسدا معا وبه أخذ الربيع ، وقال : هو أصح القولين .

( قال الشافعي ) : وإذا رهن الرجل رجلا كلبا لم يجز ; لأنه لا ثمن له ، وكذلك كل ما لا يحل بيعه لا يجوز رهنه ، ولو رهنه جلود ميتة لم تدبغ لم يجز الرهن ، ولو دبغت بعد لم يجز فإن رهنه إياها بعدما دبغت جاز الرهن ; لأن بيعها في تلك الحال يحل .

ولو ورث رجل مع ورثة غيب دارا فرهن حقه فيها لم يجز حتى يسميه نصفا أو ثلثا أو سهما من أسهم فإذا سمى ذلك ، وقبضه المرتهن جاز . وإذا رهن الرجل الرجل شيئا على أنه إن لم يأت بالحق عند محله فالرهن بيع للمرتهن فالرهن مفسوخ والمرتهن فيه أسوة الغرماء ، ولا يكون بيعا له بما قال : لأن هذا لا رهن ، ولا بيع كما يجوز الرهن أو البيع ، ولو هلك في يدي المرتهن قبل محل الأجل لم يضمنه المرتهن ، وكان حقه بحاله كما لا يضمن الرهن الصحيح ، ولا الفاسد ، وإن هلك بعد محل الأجل في يديه ضمنه بقيمته ، وكانت قيمته حصصا بين أهل الحق ; لأنه في يديه ببيع فاسد ، ولو كان هذا الرهن الذي فيه هذا الشرط أرضا فبنى فيها قبل محل الحق قلع بناءه منها ; لأنه بنى قبل أن يجعله بيعا فكان بانيا قبل أن يؤذن له بالبناء [ ص: 166 ] فلذلك قلعه ، ولو بناها بعد محل الحق فالبقعة لراهنها والعمارة للذي عمر متى أعطى صاحب البقعة قيمة العمارة قائمة أخرجه منها ، وليس له أن يخرجه بغير قيمة العمارة ; لأن بناءه كان بإذنه على البيع الفاسد ، ولا يخرج من بنائه بإذن رب البقعة إلا بقيمته قائما ، وإذا دفع الرجل إلى الرجل المتاع ثم قال : كل ما اشتريت منك أو اشترى منك فلان في يومين أو سنتين أو أكثر أو على الأبد فهذا المتاع مرهون به فالرهن مفسوخ ، ولا يجوز الرهن حتى يكون معلوما بحق معلوم ، وكذلك لو دفعه إليه رهنا بعشرة عن نفسه أو غيره ثم قال : كل ما كان لك علي من حق فهذا المتاع مرهون به مع العشرة أو كل ما صار لك علي من حق فهذا مرهون لك به كان رهنا بالعشرة المعلومة التي قبض عليها ، ولم يكن مرهونا بما صار له عليه وعلى فلان ; لأنه كان غير معلوم حين دفع الرهن به فإن هلك المتاع في يدي المدفوع في يديه قبل أن يشتري منه شيئا أو يكون له على فلان شيء أو بعد فهو غير مضمون عليه كما لا يضمن الرهن الصحيح ، ولا الفاسد إذا هلك ، ولو أنه دفع إليه دارا رهنها بألف ثم ازداد منه ألفا فجعل الدار رهنا بألفين كانت الدار رهنا بالألف الأولى ، ولم تكن رهنا بالألف الآخرة ، وإن كان عليه دين بيعت الدار فبدي المرتهن بالألف الأولى من ثمن الدار وحاص الغرماء بالألف الآخرة في ثمن الدار وفي مال إن كان للغريم سواها فإذا أراد أن يصح له أن تكون الدار رهنا بألفين فسخ الرهن الأول ثم استأنف أن تكون مرهونة بألفين ، ولو رهنه إياها بألف ثم تقارا على أنها رهن بألفين ألزمتهما إقرارهما ; لأن الرهن الأول مفسوخ وتجدد فيها رهن صحيح بألفين .

وإذا كان الإقرار ألزمته صاحبه قال : وإذا رهن الرجل الرجل ما يفسد من يومه أو غده أو بعد يومين أو ثلاثة أو مدة قصيرة ، ولا ينتفع به يابسا مثل البقل والبطيخ والقثاء والموز ، وما أشبهه فإن كان الحق حالا فلا بأس بارتهانه ويباع على الراهن ، وإن كان الرهن إلى أجل يتباقى إليه فلا يفسد فلا بأس ، وإن كان إلى أجل يفسد إليه الرهن كرهته ، ولم أفسخه ، وإنما منعني من فسخه أن للراهن بيعه قبل محل الحق على أن يعطي صاحب الحق حقه بلا شرط ، وإن الراهن قد يموت من ساعته فيباع فإن تشارطا في الرهن أن لا يبيعه إلى أن يحل الحق أو أن الراهن إن مات لم يبعه إلى يوم كذا ، وهو يفسد إلى تلك المدة فالرهن مفسوخ .

ولو رهنه ما يصلح بعد مدة مثل اللحم الرطب ييبس والرطب ييبس ، وما أشبهه كان الرهن جائزا لا أكرهه بحال ، ولم يكن للمرتهن تيبيسه حتى يأذن بذلك الراهن فإن سأل المرتهن في المسائل كلها بيع الرهن خوف فساده إذا لم يأذن للمرتهن بتيبيس ما يصلح للتيبيس منه لم يكن ذلك له إلا أن يأذن الراهن ، وكذلك كرهت رهنه ، وإن لم أفسخه .

التالي السابق


الخدمات العلمية