الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2588 [ ص: 345 ] باب في الرجل يطلق امرأته فتتزوج غيره ولا يدخل بها فليس لها أن ترجع إلى الأول

                                                                                                                              وقال النووي : (باب: لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها; حتى تنكح زوجا غيره، ويطأها، ثم يفارقها، وتنقضي عدتها) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 3-4 جـ 10 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن ابن شهاب حدثني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رفاعة القرظي، طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنه والله! ما معه إلا مثل الهدبة، وأخذت بهدبة من جلبابها، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا، فقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته" وأبو بكر الصديق جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة لم يؤذن له، قال: فطفق خالد ينادي أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

                                                                                                                              [ ص: 346 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 346 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن عائشة) ، رضي الله عنها، (أن رفاعة القرظي) بضم القاف وفتح الراء. نسبة إلى بني قريظة.

                                                                                                                              (طلق امرأته) . قيل: اسمها "تميمة". وقيل: سهيمة. وقيل: أميمة. (فبت طلاقها) أي: طلقها ثلاثا.

                                                                                                                              (فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير) ، بفتح الزاي وكسر الباء بلا خلاف. وهو الزبير بن باطاء) ويقال: باطياء .

                                                                                                                              وكان عبد الرحمن صحابيا. والزبير قتل يهوديا في غزوة بني قريظة.

                                                                                                                              وهذا هو الذي ذكره: ابن عبد البر، والمحققون.

                                                                                                                              وقال ابن منده، وأبو نعيم الأصفهاني: هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية.

                                                                                                                              والصواب: الأول.

                                                                                                                              (فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! إنها كانت تحت رفاعة، [ ص: 347 ] فطلقها آخر ثلاث تطليقات، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنه، والله! ما معه إلا مثل الهدبة. أي: هدبة الثوب. بضم الهاء وإسكان الدال. وهي طرفه الذي لم ينسج.

                                                                                                                              شبهوها بهدب العين، وهو شعر جفنها. هكذا في النووي ، ونحوه في الفتح.

                                                                                                                              وفي القاموس: "الهدب" بالضم، وبضمتين: شعر أشفار العين، وخمل الثوب. واحدتهما بهاء، وكذا في مجمع البحار، نقلا عن النووي : أنها بضم هاء وسكون دال.

                                                                                                                              أرادت: أن ذكره يشبه الهدبة، في الاسترخاء وعدم الانتشار. (وأخذت) بهدبة من جلبابها. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا) .

                                                                                                                              قال أهل العلم: إن التبسم للتعجب، من جهرها وتصريحها بهذا الذي تستحي النساء منه في العادة. أو لرغبتها في زوجها الأول، وكراهة الثاني. والله أعلم.

                                                                                                                              (فقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى يذوق عسيلتك) ، بضم العين وفتح السين. تصغير "عسلة". وهي كناية عن الجماع.

                                                                                                                              [ ص: 348 ] شبه لذته: بلذة العسل وحلاوته.

                                                                                                                              قالوا: وأنث العسيلة: لأن في العسل لغتين: التذكير، والتأنيث. وقيل: أنثها على إرادة النطفة. وهذا ضعيف، لأن الإنزال لا يشترط.

                                                                                                                              قال في شرح المنتقى: قيل: المراد: قطعة من العسل. والتصغير للتقليل: إشارة إلى أن القدر القليل كاف في تحصيل ذلك، بأن يقع تغييب الحشفة في الفرج. وحديث الباب يدل على ذلك.

                                                                                                                              وزاد الحسن البصري: حصول الإنزال. قال ابن بطال: شذ الحسن في هذا، وخالف سائر الفقهاء

                                                                                                                              (وتذوقي عسيلته)

                                                                                                                              قال الفقهاء: يكفي ما يوجب الحد، ويحصن الشخص، ويوجب كمال الصداق: ويفسد الحج والصوم.

                                                                                                                              وقال أبو عبيدة: "العسيلة": لذة الجماع. والعرب تسمي كل شيء تستلذه: عسلا.

                                                                                                                              (وأبو بكر الصديق) رضي الله عنه، (جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة، لم يؤذن له. قال: فطفق خالد ينادي أبا بكر: ألا تزجر هذه عما تجهر به، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) .

                                                                                                                              [ ص: 349 ] وفي هذا الحديث: أن المطلقة ثلاثا، لا تحل لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، ويطأها ثم يفارقها، وتنقضي عدتها. فأما مجرد عقده عليها، فلا يبيحها للأول.

                                                                                                                              قال النووي : وبه قال جميع العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.

                                                                                                                              وانفرد سعيد بن المسيب فقال: إذا عقد الثاني عليها ثم فارقها، حلت للأول. ولا يشترط وطء الثاني، لقول الله تعالى: { حتى تنكح زوجا غيره } . والنكاح: حقيقة في العقد، على الصحيح.

                                                                                                                              وأجاب الجمهور: بأن هذا الحديث مخصص لعموم الآية، ومبين للمراد بها.

                                                                                                                              قال العلماء: ولعل "سعيدا" لم يبلغه هذا الحديث. قال عياض : لم يقل أحد بقول سعيد في هذا، إلا طائفة من الخوارج.

                                                                                                                              واتفق العلماء: على أن تغييب الحشفة في قبلها، كاف في ذلك، من غير إنزال المني.

                                                                                                                              قال الجمهور: بدخول الذكر تحصل اللذة والعسيلة. ولو وطئها [ ص: 350 ] في نكاح فاسد، لم تحل للأول على الصحيح، لأنه ليس بزوج. انتهي

                                                                                                                              قال في السيل الجرار: الآية وإن كانت تتناول العقد كما تتناول وطء الواطئ، على القول بأن لفظ النكاح مشترك بين العقد والوطء اشتراكا لفظيا، لكن حديث عائشة يدل على أن المراد بالنكاح في الآية: (الوطء) . ومعلوم: أنه لا يكون وطء إلا بعد عقد. ولا سيما مع ما أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو نعيم "في الحلية" من حديثها أيضا: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "العسيلة الجماع") . انتهى.

                                                                                                                              قال في النيل: استدل به على أن وطء الزوج الثاني، لا يكون محللا ارتجاع الزوج الأول للمرأة، إلا إن كان حال وطئه منتشرا. فلو لم يكن كذلك، أو كان عنينا، أو طفلا: لم يكف على الأصح من قول أهل العلم.

                                                                                                                              [ ص: 351 ] زاد في السيل: وأما صحة وطء الصغير "إذا كان مثله يطأ"، فلأنه يصدق عليه: أنه نكحها، وأنه وطئها، وإن لم تكن له لذة ما تكون للكبير.

                                                                                                                              وأما المجبوب; فلا بد أن يصدق على وطئه أنه وطء، وإلا فلا اعتبار بذلك. وأما في الدمين، فلكون ذلك مما يصدق عليه مسمى الوطء. انتهى.

                                                                                                                              قال في النيل: وأحاديث الباب، تدل على أنه: لا بد فيمن طلقها زوجها ثلاثا ثم تزوجها زوج آخر: من الوطء. فلا تحل للأول إلا بعده.

                                                                                                                              قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحلل للأول، إلا ابن المسيب. ونقل عن سعيد بن جبير مثل قوله. وحكي عن داود: أنه وافق في ذلك.

                                                                                                                              قال القرطبي: ويستفاد من الحديث على قول الجمهور: أن الحكم يتعلق بأقل ما ينطبق عليه الاسم، خلافا لمن قال: لا بد من حصول جميعه.

                                                                                                                              [ ص: 352 ] واستدل بإطلاق الذوق لهما: على اشتراط علم الزوجين به. حتى لو وطئها نائمة، أو مغمى عليها: لم يكف ذلك، ولو أنزل هو. وبالغ ابن المنذر: فنقله عن جميع الفقهاء.

                                                                                                                              واستدل بحديث الباب: على جواز رجوعها إلى زوجها الأول، إذا حصل الجماع من الثاني، ويعقبه الطلاق منه. لكن شرط المالكية، "ونقل عن عثمان، وزيد بن ثابت": أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني، ولا إرادة تحليلها للأول.

                                                                                                                              وقال الأكثر: إن شرط ذلك في العقد فسد، وإلا فلا.

                                                                                                                              ومما يستدل بهذا الحديث عليه: أنه لا حق للمرأة في الجماع. لأن هذه المرأة شكت أن زوجها لا يطؤها. وأن ذكره لا ينتشر. وأنه ليس معه ما يغني عنها. ولم يفسخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نكاحها.

                                                                                                                              وفي ذلك خلاف معروف.




                                                                                                                              الخدمات العلمية