الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 2 ] باب نكاح البكر

( قال ) رضي الله عنه : وإذا زوج الرجل ابنته الكبيرة ، وهي بكر فبلغها فسكتت فهو رضاها ، والنكاح جائز عليها وإذا أبت وردت لم يجز العقد عندنا وعلى قول ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يجوز العقد وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى احتج بقوله صلى الله عليه وسلم { ليس للولي مع الثيب أمر } فتخصيص الثيب بالذكر عند نفي ولاية الاستبداد للولي بالتصرف دليل على أنه يستبد بتزويج البكر ; ولأن هذه بكر فيملك أبوها تزويجها كما لو كانت صغيرة .

وهذا لما بينا أن بالبلوغ لا يحدث لها رأي في باب النكاح ، فإن طريق معرفة ذلك التجربة فكأن بلوغها مع صفة البكارة كبلوغها مجنونة بخلاف المال والغلام ، فإن الرأي هناك يحدث بالبلوغ عن عقل ، والدليل عليه أن للأب أن يقبض صداقها بغير أمرها إذا كانت بكرا فإذا جعل في حق قبض الصداق كأنها صغيرة حتى يستبد الأب بقبض صداقها فكذا في تزويجها .

وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر زوجها أبوها وهي كارهة } وفي حديث آخر قال { في البكر يزوجها وليها : فإن سكتت فقد رضيت وإن أبت لم تكره } وفي رواية : فلا جواز عليها .

والدليل عليه حديث الخنساء { فإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبي زوجني من ابن أخيه وأنا لذلك كارهة فقال : صلى الله عليه وسلم أجيزي ما صنع أبوك فقالت ما لي رغبة فيما صنع أبي فقال صلى الله عليه وسلم : اذهبي فلا نكاح لك انكحي من شئت فقالت أجزت ما صنع أبي ولكني أردت أن يعلم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء } ، ولم ينكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتها ، ولم يستفسر أنها بكر أو ثيب فدل أن الحكم لا يختلف ، وفي الحديث المعروف { : البكر تستأمر في نفسها وسكوتها رضاها } .

فدل أن أصل الرضا منها معتبر والشافعي رحمه الله تعالى لا يعمل بهذا الحديث أصلا فإنه يقول في حق الأب والجد لا يشترط رضاها [ ص: 3 ] وفي تزويج غير الأب والجد لا يكتفى بسكوتها وما علق في حديث آخر من الحق لها بصفة الثيوبة المراد به في حق الضم والتفرد بالسكنى .

يعني أن للولي أن يضم البكر إلى نفسه ; لأنه يخاف عليها أن تخدع فإنها لم تمارس الرجال ولم تعرف كيدهم ، وللثيب أن تنفرد بالسكنى ; لأنها آمنة من ذلك ، والمعنى فيه أنها حرة مخاطبة فلا يجوز تزويجها بغير رضاها كالثيب ، وتأثيره أن الحرية والخطاب وصفان مؤثران في استبداد المرء بالتصرف وزوال ولاية الافتيات عليه كما في حق المال والغلام .

وبقاء صفة البكارة تأثيره في عدم الاهتداء بسبب انعدام التجربة والامتحان ، ولهذا لا تثبت ولاية الافتيات عليه كما في المال ، فإن الظاهر أن من يبلغ لا يكون مهتديا إلى التصرفات قبل التجربة والامتحان ولكن الاهتداء وعدم الاهتداء لا يوقف على حقيقته وتختلف فيه أحوال الناس فأقام الشرع البلوغ عن عقل مقام حقيقة الاهتداء تيسيرا للأمر على الناس ، وسقط اعتبار الاهتداء الذي يحصل قبل البلوغ بسبب التجربة ، ويسقط اعتبار الجهل الذي يبقى بعد البلوغ ; لعدم التجربة .

ألا ترى أن البكر التي لا أب لها غير مهتدية كالتي لها أب ثم اعتبر رضاها في تزويجها بالاتفاق وكذلك إقرارها بالنكاح يصح ، فلو كان بقاء صفة البكارة في حقها كبقاء صفة الصغر لم يجز إقرارها بالنكاح .

وأما قبض الصداق فعندنا لو نهت الأب عن قبض صداقها لم يكن له أن يقبض ، ولكنه عند عدم النهي له أن يقبض لوجود الإذن دلالة فإن الظاهر أن البكر تستحي من قبض صداقها ، وأن الأب هو الذي يقبض ; لتجهيزها بذلك مع مال نفسه إلى بيت زوجها فكان له أن يقبض لهذا ، وبعد الثيوبة لا توجد هذه العادة ; لأن التجهيز من الآباء بالإحسان مرة بعد مرة لا يكون فصار الأب في المرة الثانية كسائر الأولياء

التالي السابق


الخدمات العلمية